للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهنا ينبغي التنبيه على أمر مهم، وهو أن ما ورد عن كثير من التابعين وتلامذتهم في ذم الإرجاء وأهله، والتحذير من بدعتهم، إنما المقصود به هؤلاء المرجئة الفقهاء، فإن جهما لم يكن قد ظهر بعد، وحتى بعد ظهوره كان بخراسان، ولم يعلم عن عقيدته بعض من ذم الإرجاء من علماء العراق وغيره الذين كانوا لا يعرفون إلا إرجاء فقهاء الكوفة ومن اتبعهم، وحتى إن بعض علماء المغرب كابن عبد البر لم يذكر إرجاء الجهمية بالمرة (١).

ثم حصل في القرن الرابع فصاعدا ما يشبه الاندماج بينهم وبين الأشاعرة، ولم يبق لهم اليوم من وجود إلا بعض الحنفية ومن هؤلاء من يرى الخلاف بينهم وبين السلف الإسلام لفظيا فقط، اعتمادا على كلام شارح الطحاوية وبعض مواضع من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه، وقد تقدم بيان الحق في ذلك.

٤ - طائفة رابعة ليست كأحد من هذه الفرق البدعية:

ولكن خفى عليها مأخذ السلف، فظهرت بمظهر العجز عن إثبات عقيدتها، ونسبت للتقليد المحض، وأعنى بذلك كثيرا من متأخرى أهل السنة الذين لم يقدموا بعمل كاف لصد تيار الإرجاء العصري، بسبب عدم إدراكهم لبعض أسس العقيدة ومنطلقاتها، ومن ذلك موضوع أعمال القلوب، فقد أعياهم الجواب أمام مطالبة المرجئة بدليل على شروط لا إله الله من انقياد وقبول ويقين وصدق وإخلاص الخ، وزعمهم أن هذا من ابتداع ابن تيميه أو محمد بن عبد الوهاب الذى لا اصل له في كلام السلف (٢).

وهذا ما يعيدنا إلى قضية أهمية أعمال القلوب وضرورة بحث الحديث عنها وبيان منزلتها من الإيمان فلقد ترتب على إهمالها وإغفالها من الآثار المدمرة في حياة الأمة الشىء الكثير، ومن أعظم ذلك انحسار مفهوم العبادة وتضييقه، وانتقاص توحيد الألوهية ووقوع الأمة في الشرك الأكبر، حتى أصبحت المرجئة في القرون الأخيرة تجاهر بإنكار دخول هذه الإعمال في العبادة والتأله فقالوا: إن الرجاء والخوف والمحبة والتعظيم والرضا والتسليم والانقياد والطاعة ونحوها من تعبدات القلب - بل الدعاء والاستغاثة بالمخلوقين - لا علاقة لها بالشرك، ولا يسمى فاعلها لغير الله مشركا ما دام يقول: لا إله إلا الله ويعتقد بقلبه صدق الرسول فيما جاء به!!

وإنما الشرك بزعمهم اعتقاد القلب أن هذا المخلوق إله أو رب معبود، والكفر أن يعتقد بقلبه أن ما يفعله من الأعمال كفر، أما إذا عمل أعمال الكفر (٣) مع اعتقاده أن ذلك لا يخرجه من الملة فليس بكافر!!

وقد اصطدمت هذه الفكرة بالعقيدة السلفية بطبيعة الحال، وجرى بين المنهجين جولات ومعارك - أبرزها المعركة التى دارت أيام شيخ الإسلام ابن تيميه، ثم الجولة التى دارت بظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وما تزال المعركة قائمة على أشدها وما يزال مذهب المرجئة هو الطاغي على اكثر بقاع العالم الإسلامي.

وهكذا ظلت هذه القضية هى جوهر كل الدعاوى التى أشهرها المؤلفون الإرجائيون على عقيدة السنة والجماعة باسم الرد على ما أسموه " الوهابية ".

كما أنها ظلت كذلك بعد استفحال شرك التشريع، وظهور الدعاة الذين أعلنوا أن تحكيم غير شرع الله كفر أكبر ينافى شهادة أن لا إله إلا الله.

ومن هنا اقتضى الأمر تفصيل الحديث عن بعض أعمال القلوب، وهو ما سنشرع فيه بإذن الله.

١ - الرضا:


(١) [٤٣٧٨] آى ضمن كلامه عن الفرق فى الإيمان فى ((التمهيد))، (ج٩)
(٢) [٤٣٧٩] معلوم إن أهل السنة استدلوا عليهم بوجود هذه الشروط فى أكثر الأحاديث مثل " من قال: لا إله إلا الله مستيقنا "مخلصا".الخ ولكن التأصيل الكامل لشطر الإيمان القلبى لم يتفطن له فيما أعلم.
(٣) [٤٣٨٠] كالتشريع من دون الله فى عصرنا الحاضر

<<  <  ج: ص:  >  >>