للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كلمة الرضا تجمع بين شرطين من الشروط إلى ذكرها بعض العلماء لشهادة أن لا إله إلا الله وهما " القبول والانقياد " بل الرضا أعلى منهما وأشمل (١) وقد أثرته لذلك ولكونه لفظا شرعيا ورد في الكتاب والسنة.

وحسبك في تعظيمه قوله تعالى:

الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:٣]

فما رضيه الله لنا وهو الغنى الحميد، فنحن أولى أن نرضى به وأحق.

فالرضا بالدين هو " أساس الإسلام وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضيا به بلا حرج، ولا منازعة، ولا معارضة، ولا اعتراض، قال الله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:٦٥]

فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله وحتى يرفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليما وهذه حقيقة الرضا بحكمه (٢).

وليس هذا الرضا على درجة واحدة، بل هو - كما في الآية - على ثلاث مراتب " فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان (٣) فمن لم يرض بتحكيم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في أصول الدين وفروعه الشريعة ويتحاكم إليه، فهو معترض بنوع من أنواع الاعتراض الآتى تفصيلها فلهذا لا يكون مسلما - وإن رغم ذلك، كما قال تعالى في الآيات التى قبلها:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ [النساء:٦٠].

وكيف لا وأول كفر وقع في هذا العالم إنما نشا " من عدم الرضا، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا - من تفضيل آدم وتكريمه، ولا بحكمه الديني - من أمره بالسجود لآدم " (٤)، مع تصديقه بالله واليوم الآخر، وان الله هو الإله دون ما سواه.

ومن رضي بأصل التحكيم لكن لم ينتف الحرج عن نفسه بل ربما زعزعته شبهة أو لحقه شك، فهذا كالأعراب الذين اسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.

ومن انتفي عنه الحرج لكن لم يرق إلى درجة التسليم المطلق للوحي أمرا ونهيا وخبرا، فهو ناقص عن مرتبة الإحسان التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم، والتي كان الصديق في ذروتها حتى في اشق المواقف، كموقف الحديبية (٥).

وهذا هو الرضا الذي قال عنه ابن القيم: " إن الرضا من أعمال القلوب نظير الجهاد من أعمال الجوارح، فان كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان، قال أبو الدرداء: ذروة سنام الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر " (٦).

والرضا يشمل التوحيد كله، ربوبية وألوهية، طاعة وتقربا، ومن هنا قال النبي صلي الله عليه وسلم: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا "، وقال: " من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، غفرت له ذنوبه ".

" وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين واليهما ينتهي، وقد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته، والرضا برسوله والانقياد له والرضا بدينه والتسليم له.


(١) [٤٣٨١] الرضا يتضمن الصبر والمحبة تتضمن الرغبة.
(٢) [٤٣٨٢] ((مدارج السالكين)) (٢/ ١٩٢)
(٣) [٤٣٨٣] ((مدارج السالكين)) (٢/ ١٩٢)
(٤) [٤٣٨٤] ((المدارج)) (٢/ ٢١٤)
(٥) [٤٣٨٥] سبق الحديث عنه من (ص ٧٣) فصاعدا.
(٦) [٤٣٨٦] ((المدارج)) (٢/ ٢١٤)

<<  <  ج: ص:  >  >>