للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهاتان هما الحجتان الملزمتان للناس عند الصحابة: كتاب من الله أو سنة من رسوله صلى الله عليه وسلم مصداقاً لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ [النساء:٥٩] وكان أحدهم رضي الله عنهم يغضب إذا عورض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول غيره من البشر ولو كان من حكماء اليونان! فقد جاء في صحيح مسلم أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر لأصحابه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الحياء لا يأتي إلا بخير, فقال أحدهم وهو بشير بن كعب أنه مكتوب في الحكمة أن منه وقاراً ومنه سكينة فقال عمران: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحفك! وفي رواية: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه, قال فأعاد عمران الحديث. قال فأعاد بشير. فغضب عمران قال فمازلنا نقول فيه: إنه منا يا أبا نجيد إنه لا بأس به)) (١). قال النووي (وقولهم إنه منا لا بأس به معناه ليس هو ممن يتهم بنفاق أو زندقة أو بدعة أو غيرها مما يخالف به أهل الاستقامة).إذن فالصحابة لم يعارضوا ولم يرضوا بمعارضة حديث رسول صلى الله عليه وسلم بغيره من المعقولات، وإذا أشكل عليهم شيء من ذلك كانوا يوردون إشكالاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبهم عنها وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص التي يوهم ظاهرها التعارض، ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولاً يعارض النص البتة، ولا عرف فيهم أحد –وهم أكمل الأمم عقولاً – عارض نصاً بعقله يوماً من الدهر، وإنما حكى الله سبحانه ذلك عن الكفار، كما تقدم، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من نوقش الحساب عذب، فقالت عائشة: يا رسول الله، أليس الله يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:٧ - ٨]. فقال: بلى ولكن ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب)) (٢)، فأشكل عليها الجمع بين النصين حتى بين لها صلوات الله وسلامه عليه أنه لا تعارض بينهما وأن الحساب اليسير هو العرض الذي لابد أن يبين الله فيه لكل عامل عمله، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:١٨]. حتى إذا ظن أنه لن ينجو نجاه الله تعالى بعفوه ومغفرته ورحمته فإذا ناقشه الحساب عذبه ولابد. ولما قال: صلى الله عليه وسلم ((لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة قالت له حفصة: أليس الله يقول: وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:٧١] قال: ألم تسمعي قوله تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:٧٢])) (٣) , فأشكل عليها الجمع بين النصين وظنت الورود دخولها كما يقال ورد المدينة إذا دخلها فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن ورود المتقين غير ورود الظالمين فإن المتقين يردونها وروداً ينجون به من عذابها والظالمين يردونها وروداً يصيرون جثياً فيها به. فليس الورود كالورود) (٤)


(١) رواه البخاري (٦١١٧) , ومسلم (٣٧).
(٢) رواه البخاري (٦٥٣٦) , ومسلم (٢٨٧٦).
(٣) رواه مسلم (٢٤٩٦) , من حديث أم بشر رضي الله عنها.
(٤) ((الصواعق)) (٣/ ١٠٥٢) ..

<<  <  ج: ص:  >  >>