وقد دل القرآن على أنه لا تلازم بين الأمرين، وأنه تعالى لا يعاقب إلا بإرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن وقبيح ... قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: ١٥]. ففي هذه الآية إشارة إلى أن العذاب لا يكون إلا بعد بعثة الرسل؛ وذلك دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالشرع. وقال تعالى: ... كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [الملك: ٨ - ٩]. ففي هذه الآية كسابقتها دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالشرع؛ بدليل أن الخزنة لم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل، بل للنذر؛ وبذلك دخلوا النار؛ وهذا مما يبطل قول المعتزلة أن العقاب على القبائح ثابت بالعقل قبل ورود الشرع.
ومن الآيات الدالة على الأمرين قوله تعالى: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: ١٣١]. وعلى أحد القولين في معنى الآية، وهو أن يكون المعنى لم يهلكهم بظلمهم قبل إرسال الرسل تكون الآية دالة على الأمرين: أن أفعالهم وشركهم ظلم وقبيح قبل البعثة، وأنه لا يعاقبهم عليه إلا بعد إرسال الرسل. وهذه الآية في دلالتها على الأمرين نظير قوله تعالى: وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: ٤٧]. فهذه الآية تدل على أن ما قدمت أيديهم سبب لنزول المصيبة بهم. ولولا قبحه لم يكن سبباً، لكن امتنع إصابة المصيبة لانتقاء شرطها؛ وهو عدم مجيء الرسول إليهم، فمنذ جاء الرسول انعقد السبب ووجد الشرط فأصابهم سيئات ما عملوا، وعوقبوا بالأول والآخر.