للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كان القول بالقدر في أول أمره ساذجا لا فلسفة فيه، بل مجرد اعتقاد أن الله سبحانه لا يقدر شيئا مسبقا على الإنسان، وأن الإنسان هو فاعل أفعاله بمحض مشيئته دون تدخل من مشيئة الله، وتبرز تلك البساطة في المناقشة التالية التي جرت في نهاية القرن الأول الهجري في خلافة عمر بن عبد العزيز: "روي أن غيلان الدمشقي وقف يوما على ربيعة الرأي فقال له: أنت الذي تزعم أن الله يحب أن يعصى؟ فقال له ربيعة: أنت الذي تزعم أن الله يعصى قسرا؟ " (١).أما عن القول بالمنزلة بين المنزلتين: فإن أول من ابتدعها واصل بن عطاء وهي أول مسألة نسبت للمعتزلة كفرقة مستقلة، حيث اعتزل حلقة الحسن البصري بعد أن سئل الحسن عن مرتكب الكبيرة الذي يموت دون توبة فسكت الحسن ورد واصل أنه في منزلة بين المنزلتين لا يقال مؤمن ولا كافر (٢) ومع ذلك فإن قال بتأبيده في النار خالدا فيها، فوافق الخوارج في ذلك وإن خالفهم في عدم إطلاق اسم الكفر عليه، ومن هنا سميت المعتزلة مخانيث الخوارج"! (٣).

ثانيا: الطور الأول للمعتزلة: بدأ فكر المعتزلة يتبلور كفرقة مستقلة متميزة في البصرة على يد واصل بن عطاء (م١٣١) الذي كان يحضر مجالس الحسن البصري، وقد ذهب – هو وعمرو بن عبيد – إلى أن الفاسق مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين وأنه مخلد في النار، ولم يطلق القول بتكفيره، واعتزل حلقة الحسن إلى سارية أخرى فأطلق عليهم "المعتزلة" (٤) لاعتزالهما قول الأمة وإجماع المتقدمين من الصحابة والتابعين.

وقد ذهب واصل إلى ما ذهبت إليه من قبل "القدرية" أتباع معبد الجهني وغيلان من نفي القدر، كما وافق "الجهمية" اتباع الجعد بن درهم والجهم بن صفوان في نفي الصفات – حسب مذكراته سابقا – بصورة غير معقدة ولا ملتبسة بشيء من الفلسفة أو مباحثها، إذ أن التأثر الخارجي كان في مجرد استيراد الفكرة بذاتها وتطبيقها على الإسلام، أما استخدام المنهج السلفي أو الأبحاث اللاهوتية في تقريرها فلم يكن له أي أثر حتى ذلك الحين.

ثالثا – التطور الثاني للمعتزلة:

أدخلت المعتزلة في هذا الطور المباحث الفلسفية والمناهج اليونانية بشكل واضح في الموضوعات التي بحثوها وأضافوها إلى أقوال من سبقهم في البدعة.

وقد انقسم الكلام في هذه المرحلة إلى قسمين: جليل الكلام، ودقيق الكلام.

فأما جليل الكلام: فهو يبحث في صفات الله وكلامه وقدرته وإرادته وفي الإيمان ومعناه وما يستتبع ذلك من كلام في الخلق والآجال والأرزاق والثواب والعقاب والختم والطبع والهدى والضلال وغير ذلك من مباحث، وهو ذو صلة بالموضوعات المطروحة في الطور الأول.

وأما دقيق الكلام: فقد نشأ بأكمله في هذا الطور وبحث في الجوهر والعرض، والجسم وحدوده، والأضداد والعلل، والإرادة والتولد، وغير ذلك من مباحث تفوح منها رائحة الفلسفة اليونانية كأوضح ما تكون. لذلك نجد أن الكلام فيه منقول عن متأخري المعتزلة كالإسكافي ومعمر وأبي الحسين الصالحي وغيرهم، وأما واصل بن عطاء ومن في طبقته فلم ينسب لهم شيء من الكلام في تلك المعاني.

وسنضرب أمثلة من أقوال أئمة المتأخرين منهم في هذه المرحلة ندلل بها على تطور أقوالهم وتدهورها مع الزمن:

فمن أقوال أبي الهذيل العلاف (م ٢٣٥): القول بفناء مقدورات الله حتى لا يكون بعد فناء مقدوراته قادرا على شيء!! أي أنه يخلق ما يشاء حتى لا يقدر أن يخلق شيئا بعد ذلك (٥).


(١) ((فجر الإسلام)) (٢٨٥).
(٢) ((الفرق بين الفرق)) (١١٨).
(٣) ((الفرق بين الفرق)) (١١٩).
(٤) ((الفرق بين الفرق)) (١١٨).
(٥) ((الفرق بين الفرق)) (١٢٢)، ((اعتقادات أهل فرق المسلمين والمشركين)) للرازي (٤١).

<<  <  ج: ص:  >  >>