للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر؟ بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر؟ وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميّات كما تحتج بها في الطلبيات العمليّات، ولا سيما أن الأحكام العملية، تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه، ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته.

ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله، وأسمائه وصفاته. فأين سلف المفرّقين بين البابين؟.

نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله، ورسوله وأصحابه، بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب، والسنة وأقوال الصحابة ويحيلون على آراء المتكلمين، وقواعد المتكلفين، فهم الذين يعرف عنهم هذا التفريق بين الأمرين ... ؛وهذا التقسيم أصل من أصول ضلال القوم. فإنهم فرّقوا بين ما سموه أصولاً وما سموه فروعاً، وسلبوا الفروع حكم الله المعين فيها، ... ، وجعلوا ما سموه أصولاً من أخطأ فيه عندهم فهو كافرٌ أو فاسق، وادعو بالإجماع على هذا التفريق" (١).

٣ - وقال الإمام ابن القيم أيضاً: ونحن نشهد بالله ولله شهادةً على البت والقطع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: خبرك خبر واحدٍ لا يفيد العلم حتى يتواتر؛ ولم يكن أحد من الصحابة ولا أحد من أهل الإسلام بعدهم يشك فيما أخبر به أبو بكر الصديق، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي ولا عبدالله بن مسعود، ولا غيرهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة رضي الله عنه، مع تفرده بكثير من الحديث ولم يقل أحد منهم يوماً واحداً من الدهر: خبرك هذا خبر واحد لا يفيد العلم.

وكان حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجل في صدورهم من أن يقابل بذلك، وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصفات تلقاه بالقبول، واعتقد تلك الصفة على القطع واليقين، كما اعتقدوا رؤية الرب وتكليمه ونداءه يوم القيامة لعباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة وضحكه، وفرحه، وإمساك سماواته بإصبع من أصابع يده، وإثبات القدم له سبحانه وتعالى.

ومن سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن أحد من الصحابة "رضي الله عنهم" اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق ولم يرتب فيها قط. إلى أن قال ابن القيم: حتى إن الصحابة ربما يَتَثَّبتونَ في بعض أحاديث الأحكام حتى يستظهروا بآخر؛ أما أحاديث الصفات فلم يطلب أحد منهم الاستظهار فيها البتة، بل كانوا أعظم مبادرةً إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها، ومن له أدنى إلمام بالسنة والالتفات إليها - يعلم ذلك دون شك، ولولا وضوح الأمر في ذلك كالشمس في رابعة النهار لذكرنا أكثر من مائة موضع.


(١) ((مختصر الصواعق)) (٢/ ٥٠٩ - ٥١٠)، باختصار الطبعة الجديدة، و (٢/ ٤١٢ - ٤١٣)، الطبعة القديمة و (٤٨٩) ط دار الكتب العلمية.

<<  <  ج: ص:  >  >>