فكلما مر عليه نص من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حول صفات رب العرش الكريم، يتبادر إلى ذهنه منه الصفة اللائقة بالمخلوق ثم يقف زاعماً: أن هذا النص لو بقي على ظاهره يلزم منه تشبيه الله بخلقه، وهذا مناف للتوحيد والتنزيه - في زعمه- الذي هو عين التعطيل في الواقع - فيلتجئ إلى الإنكار أو التأويل أو على الأقل إلى التفويض.
ثم لفساد القلوب والفطر دركات شتى فكلما كان الفساد في القلوب والعقول، والفطر أشد وأعمق غوراً، كان أصحابها أشد وأعمق غوراً، في التعطيل. ألا ترى أن غلاة الجهمية لما كان فساد قلوبهم وفطرهم أشد - كانوا أشد غلواً في التعطيل حتى عطلوا الأسماء والصفات جميعاً.
وبحجة لزوم التشبيه نفسه قاربهم المعتزلة فكانوا أحسن حالاً منهم وأقل خبثاً من هؤلاء الغلاة فعطلوا الصفات وأثبتوا الأسماء مجردة عن معانيها لزعمهم أن التشبيه إنما يتحقق في أثبات الصفات دون الأسماء.
وقاربهم تلاميذهم الماتريدية، وزملاؤهم الأشعرية الكلابية؛ فأثبتوا الأسماء مع معاني بعضها وإلحاد في بعضها.
كما أثبتوا بعض الصفات ونفوا سائرها، لظنهم أن التشبيه لا يتحقق فيما أثبتوه كالحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر؛ وإنما يتحقق التشبيه فيما نفوه من الصفات، كالعلو، والاستواء، والنزول، والوجه، واليدين، والغضب، والرضا، ونحوها.
فلو كانت عقولهم وفطرهم صحيحة ولم يتأثروا بخرافات الفلاسفة وبيئة منتنة كلامية - لكانوا أسعد بالإيمان بالصفات كما كان الصحابة والتابعون أهل القرون المفضلة أسعد به.
ونوضح هذا المقام بأمثلة يمانية ضربها العلامة المعلمي اليماني (١٣٨٦هـ) رحمه الله تعالى لبيان تأثر المتكلمين بفساد البيئة والفطرة حتى نفوا الصفات بحجة التشبيه، وتشبثوا بشبهة واهية وارتكبوا ما لا يقره عقل ولا نقل فقال:
"والحق أن العقول كلها تنبذه البتة إلا من أرعبته شبهة المخالفين لعظمتهم في وهمه، وطالت ممارسته لها، وقد يأنس بالنفي الساقط كما تقدم، وهذا الأنس إنما هو ضرب من الحيرة بل هو ضرب من الجنون.
أ- افرض أنك خرجت من بيتك، وعلى رأسك عمامة، فيلقاك رجل فيقول لك: "لم خرجت بلا عمامة؟ فترى أنه يمازحك: ثم يلقاك آخر فيقول لك نحو ما قال الأول، وثم يلقاك الثالث، ثم رابع، ثم خامس، هكذا كل منهم يقول لك نحو مقالة الأول.
ألا ترتاب في نفسك، وتخاف أن تكون قد جُننت، حيث تعتقد أن على رأسك عمامة تراها وتلمسها، وتحس ثقلها، وهؤلاء كلهم ينفون ذلك وقد ينتهي بك الحال إلى أن تحاول أن تقنع نفسك بأنه ليس على رأسك عمامة، وتنفي أن تخبر أحداً بأنك تعتقد أن على رأسك عمامة، بل قد ترى الأولى أن ترمى العمامة عن رأسك حتى يتفق اعتقادك واعتقاد الناس.
ب- ولكن افرض أنك رميت بها واعتقدت أنه ليس على رأسك عمامة، فلقيك رجل فقال لك: "عمامتك هذه كبيرة"؛ ثم لقيك آخر فقال: "عمامتك هذه وسخة" ثم ثالث، ثم رابع، ثم خامس وهلم جراً. كل منهم يثبت لك أن على رأسك عمامة؛ فماذا يكون حالك؟ وقد وقع ما يشبه هذا فكانت نتيجته الجنون.