أن يرى مبصرٌ ويسمع واعي، يرى متعدٍّ في الأصل، ويسمع كذلك متعدٍّ في الأصل هنا لم يتعدَّ وإنما رفع فاعلاً في الموضعين فقط، أي: المقصود هنا أن يرى مبصرٌ أي: أن يكون ذو رؤية أو يكون ذو سمع لأن المراد وجود من يبصر ووجود من يسمع، فأُسْنِدَ الفعل إلى الفاعل بقطع النظر عن مُتَعَلَقِهِ وهو المفعول به فحينئذٍ صار كاللازم، أي: أن يكون ذو رؤية وذو سمع فيُدرك بالبصر محاسنه وبالسمع أخباره، فحينئذٍ نَزَّل يرى ويسمع مُنَزَّلة اللازم، أي: يصدر منه الرؤية والسماع من غير تعلق بمفعول مخصوص. قال السيوطي هنا: أي ليس في الوجود ما يُرى ويُسمع إلا آثاره المحمودة. فإذا أبصر مبصر لا يرى إلا محاسنه، وإذا سمع سامع كذلك لا يسمع إلا بأخبار حسنة، فغيظ عداه أن يقع إبصار - وقع إبصار - أو سمع، فإنه كيف وقع لا يقع إلا على محاسنه، بخلاف ما لو قال: أن يرى مبصر محاسنه. يعني: ذكر المفعول به، فإنه ليس فيه حينئذٍ ما يقتضي أنه ليس في الوجود ما يُبْصَر غير محاسنه. يعني: استعمال اللازم هنا أدق في المعنى من استعمال المتعدي. فلو قال: يرى مبصر. يعني: لا يرى أي مبصر إلا محاسنه، بخلاف يرى مبصر محاسنه، كذلك السمع، ويسمع واعي يعني: لا يسمع الواعي إلا أخباره المحمودة، فإذا حذف المحمود به وجعل الفعل كاللازم حينئذٍ لا يُسمع في الوجود إلا محاسنه كما أنه لا يبصر إلا محاسنه، ثم جُعِلا الفعلين السابقين يرى ويسمع كناية عن الرؤية والسماع المتعلقين بمفعول مخصوص - وهو محاسنه وأخباره -.
والثاني: الذي لا يكون في قرينة كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[الزمر: ٩] يعلمون ماذا؟ {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} يعلمون متعدّي أو لا؟ متعدّي في الأصل أما هنا فهو لازم، {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} قيل: الفعلين في الموضعين هما متعديان في الأصل لكن هنا المراد ماذا؟
المراد مقارنة من اتصف بصفة العلم بقطع النظر عن المعلوم، ونفي العلم بقطع النظر عن المعلوم، حينئذٍ صار الوصل هنا مقيدًا بكونه مسندًا إلى الفاعل بقطع النظر عن مفعوله، فقوله:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} يعلمون فعل وفاعل، والأصل أنه متعدّي أليس كذلك؟ أين المفعول؟ ليس عندنا مفعول، لماذا؟ لكونه لازمًا {لَا يَعْلَمُونَ} يعلمون ماذا؟ نقول: هنا لازم وليس بمتعدّي، لماذا؟ لأنه قصد الفعل ابتداءً أن لا يتعلق بمفعول به البتة فنُزِّلَ مُنَزّلة اللازم فإن الغرض هنا إثبات العلم له مطلقًا في الأول ... {الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} ونفيه عنهم كذلك في الثاني {لَا يَعْلَمُونَ} أي من غير عموم في أفراده ولا خصوص، والمعنى لا يستوي من يُوجد منه حقيقة العلم ومن لا يوجد. يعني: من له صفة العلم لا يستوي مع من انتفى عنه صفة العلم.