هل هذا كلّ ما أمدهم الله تعالى به من النعم؟ الجواب: لا، إذًا هذا بدل بعض من كلّ. ففصل جملة {أَمَدَّكُم} الثانية لأنها كبدل البعض إذ مضمونها بعض ما يعلمون، والنكتة في إبدالها كون مضمونها مطلوبًا في نفسه، أو بمنزلة بدل الاشتمال نحو: ارْحَلْ لا تُقِيمَنْ عِنْدَنَا، أو لا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا. ارْحَلْ ما قال: وَلا تُقِيمَنَّ. إنما قال: ارْحَلْ لا تُقِيمَنَّ. إذًا فصل بين الجملتين لكون الثانية بمنزلة بدل الاشتمال من الأولى، فلا تقيمن بدل اشتمال من ارحل، والنكتة كالذي قبله.
إذًا إذا كانت الجملة الثانية بمنزلة التوكيد بنوعيه اللفظي والمعنوي، أو بمنزلة البدل من السابقة، أو بمنزلة عطف البيان حينئذٍ وجب الفصل، يعني: لا يجوز أن تعطف الثانية على الأولى، لماذا؟
لكونها توابع، والتوابع عين المتبوع، والعطف يقتضي المغايرة، والموجب للتأكيد دفع توهم السهو أو المجاز.
إذًا هذا هو النوع الأول كمال الاتصال، يُعَنْوَنُ له عند البيانيين بكمال الاتصال أن تكون الثانية بمنزلة البدل أو التوكيد أو عطف البيان.
الموضع الثاني من مواضع وجوب الفصل: أن يكون بين الجملتين شبه الاتصال - ليس كمال الاتصال - شبه الاتصال. يعني شبه كمال الاتصال وصورته بأن تكون الجملة الثانية جوابًا عن سؤال اقتضته الجملة الأولى، يعني تُنَزّل الجملة الأولى بمنزلة السؤال، والجملة الثانية بمنزلة الجواب. فتُنَزّل الأولى مُنَزّلة السؤال فتُفْصَلُ منها الثانية كما يُفْصَلُ الجواب عن السؤال، هذا الأصل، أَيْنَ زَيْدٌ؟ فِي الْبَيْتِ. لا يصح تقول: أَيْنَ زَيْدٌ وَفِي الْبَيْتِ. لا يُعطف الثاني على الأول، مثلها الجملة الثانية إذا كانت بمنزلة الجواب فلا تعطف على ما قبلها لأنها في منزلة الجواب، ويسمى الفصل في ذلك استئنافًا، وكذلك الجملة الثانية تسمى استئنافًا، هذا ما يُسمى باستئناف البياني الذي يمر معنا دائمًا، ما ليس واقعًا في جواب سؤال مقدر هذا الاستئناف النحوي، ما كان واقعًا في جواب سؤال مقدر هذا الاستئناف البياني. مثاله قوله تعالى:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}[يوسف: ٥٣]. كأنه قيل: هل النفس أمارة بالسوء؟ {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} هل النفس أمارة بالسوء؟ {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فنزلت الثانية منزلة الجواب، والأولى اقتضت السؤال فحينئذٍ وجب الفصل، وهذه بقرينة التأكيد.
ومنه قول الشاعر:
قال لي كيف أنت قلت عليل ... سهر دائم وحزن طويل
كأنه قال: لم أنت عليل؟ فقلت: عليل سهر دائم. هذا جاء الفصل، ولم يقل وسهر دائم، لماذا؟ لكون الثانية مُنَزَّلَة مُنَزّلة الجواب من السابقة، كأن المخاطب لما سمع عليل قال: ما سبب علتك؟ قال: سهر دائم وحزن طويل.