للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أولاً: تنظر أشاب هذا مُسند إلى ماذا؟ كَرُّ الغداة، إذًا أَسند شيء إلى الزمن، والزمن لا يحدث شيئًا، إذًا أسند الشيء إلى غير ما هو له هذا أولاً، هل نصب قرينةً تدل على أن الظاهر يخالف معتقده أم لا؟ أين القرينة؟ لا قرينة. إذًا تقول: هذه حقيقة عقلية مع كونه أسند الشيء إلى غير ما هو له، فليس كل تركيبٍ فيه إسناد الشيء إلى غير ما هو له تحكم عليه مباشرة أنه مجاز، لا، ليس هذا المراد، وإنما لا بد من نصب القرينة، فالاشتراط القرينة في ذلك نحمل هذا الكلام من الشاعر على أنه أراد به الحقيقة، يعني: يعتقد أن الذي أحدث وأفنى أشاب وأفنى هو كَرّ الغداة ومر العشي، هذا لا نحمله على المجاز، بل هو حقيقةٌ عقلية، فَكَرُّ الغادة ومر العشي هما من أجزاء الدهر وهو الزمن حيث أسند أشاب وأفنى إلى الكَرّ والمَرِّ، وحملناه على الحقيقة العقلية لعدم قيام القرينة المفيدة للعلم أو الظن منا بأن قائله لم يتعقد ظاهره، بل الأصل أن من تكلم بكلامٍ أنه يعتقد ذلك الظاهر لاحتمال أن يكون معتقدًا له ويكون حقيقة، وحملنا قول الشاعر:

..................... ... مَيَّزَ عَنْه قُنْزُعًا عَنْ قُنْزِعٍ

جذب الليالي أبطئِ أو أسرعي ... ......................

على المجاز العقلي، هنا ماذا؟ أسند ميَّزَ، هذا الْمَكْنِيّ به عن الشيب في الرأس إلى جذب الليالي، ميَّزَ جذب الليالي كسابقه، لكن أسند الشيء إلى غير ما هو له، حقيقة أو لا؟

الأصل هنا باعتبار هذا البيت تقول: هذا حقيقة. لكن دلت القرينة على أنه موحد ويعتقد أن الله عز وجل هو المحدِث ولذلك قال في نفس القصيدة:

أفناه قيل الله للشمس اطْلُعِي ... حتى إذا وراكِ أفقٌ فارجعي

فدل على أن قوله: ميَّز جذب الليالي، لم يرد به الحقيقة وإنما أراد به المجاز العقلي، لأنه ثبت عندنا أن معتقده يخالف ذلك، فحينئذٍ يكون قرينةً صارفةً للفظ عن ظاهره. إذًا نحمل قوله:

................... ... مَيَّزَ عَنْه قُنْزُعًا عَنْ قُنْزِعٍ

جذب الليالي .............. ... ......................

على المجاز العقلي حيث أسند ميَّز المكني به عن الشيب في الرأس إلى جذب الليالي أي: مضيها، ووجدت القرينة الدالة على أنه لم يرد بها الإسناد ظاهره، بل هو معتقِدٌ خلافه كقوله للبيت الذي ذكرناه سابقًا.

إذًا نقول: الأصل في التركيب أنه يُحمل على الحقيقة إلا إذا دلت القرينة الظاهرة اللفظية أو الحالية على أنه أراد غير ذلك، يعني: يعتقد غير ذلك، فالقرينة حينئذٍ في هذا المجاز تدور مع اعتقاد المتكلم، فإن عُلِمَ يعني: من جهة السامع أو ظُنَّ أن المتكلم موحد حينئذٍ حُمِلَ قوله: على المجاز وصَدَّقَهُ، وإن عَلِمَ أو ظُنَّ أو عُلِمَ أو ظُنَّ أنه دُهُريٌّ مثلاً حمّله على الحقيقة وكذب قائله.

<<  <  ج: ص:  >  >>