للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

نفكر في الشروط الفنية التي يتطلبها التوفيق بين معادلة إنسانية معينة خاصة بالبلدان المتخلفة، وبين المعادلة الاقتصادية للقرن العشرين. إن الاستعمار لم يحاول تحقيق هذا التوفيق في استثماره للبلدان المستعمَرة، فقد كان العمل استرقاقاً وعبودية يستهدف إثراء المستعمِر أكثر من أن يهدف إلى إعاشة المستعمَر، وبذلك انحطت فكرة (العمل) على يديه أخلاقياً واجتماعياً، فليس العمل وسيلة لكسب العيش، بل هو طريقة لإرضاء مطالب السلطة التي توزع الخبز، علماً بأن (الخبز) الذي يحصلون عليه بهذه الكيفية ليس حقاً، وإنما هو منحة؛ وبذلك هدمت تصرفات الاستعمار الوضع التعارَف عليه؛ ولكنها حين أدخلت الرجل المستعمَر في خضم العصر الاقتصادي لم تترك له أي وسيلة لحل مشاكله، وهكذا انحط الاستعمار برجل التأمل والنظر. وبدلاً من أن يدخله في جهاز نظامه الخاص فيجعل منه الرجل ذا الوعي الاقتصادي Homo économicus إذا به يتخذ منه آلة في هذا الجهاز، أي في الاقتصاد الاستعماري، وبهذا ينتقل الرجل المستعمَر فقط من المرحلة التأملية إلى المرحلة النباتية التي لم تكن له فيها (حاجة)، فأصبحت له حاجات لا يملك أي وسيلة منظمة وعادية لإشباعها.

فلقد نمّى الاستعمار في نفسيته خوف الجوع الذي يظهر في جميع طبقات المجتمع المستعمَر، خلق منه الرجل الجائع دائماً، وخلق منه الرجل الذي يخاف دائماً من الجوع، وهاتان الصورتان من صور الخوف، قد حطمتا عند الكائن المستعمَر كل إمكانية للتكيف مع التكوينات والأوضاع الاقتصادية في القرن العشرين.

ففي إفريقيا الشمالية مثلاً تخشى الطبقة البورجوازية الجوع، ويتجلى خوفها في صورة (بطنة Hypergastrisme) تدل عليها حالة تلك الأسرة الجزائرية التي تستهلك لاستعمالها الخاص مئة كيلو من الزبدة في الشهر (عام ١٩٣١). ويتجلى خوف الجوع في الطبقة الكادحة في صورة (مسغبة

<<  <   >  >>