للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المقصود بالتمذهب من باب التراتيب العلمية]

من المعلوم أن الفقه ليس كمسائل أصول الدين، فمسائل أصول الدين مضبوطة بالكتاب والسنة والإجماع فقط -ولابد من الإجماع- أما مسائل الفقه فثمة الأصول الثلاثة لمعرفتها، ولكن هناك قدرٌ واسع من أوجه الاستدلال، أي: إن صريح الكتاب وصريح السنة والإجماع، لا جدل حولها، ونحن لا نجد اختلافاً بين الأئمة في صريح أو إجماع، إلا أحياناً، يكون فواتاً، أي: لم يبلغ، وهذه مسألة أخرى.

لكن هناك ما يسمى عند الأصوليين بالأدلة المختلف فيها، كالقياس، وأقوال الصحابة، والاستصحاب، والاستحسان ..

إلى آخر هذه الأدلة، وسوف نضرب مثلاً باثنين من هذه الأدلة، وهما: القياس، وأقوال الصحابة.

ما موقف أئمة السلف -بما فيهم الأئمة الأربعة- من القياس وقول الصحابي؟

النتيجة الضرورية هي: إن تقديرهم لهذين الدليلين ليس تقديراً واحداً، أي: أن استعمال الإمام أحمد للقياس ليس كاستعمال أبي حنيفة أو حتى كاستعمال الشافعي، واعتبار الشافعي أو أبي حنيفة لأقوال الصحابة ليس كاعتبار أحمد وأئمة الحديث.

وباختصار: إنه عند مراجعة النظم الفقهي عند السلف نجد أنهم ينقسمون إلى أقسام، فمنهم: فقهاء غلب عليهم الفقه ولم يعرفوا بعلم الحديث والرواية، أي: ليسوا من أربابها المعروفين، وإن كانوا ينسبون إلى أهل الحديث في أصولهم، كـ أبي حنيفة؛ فإنه لم يكن محدثاً، ولم يكن عارفاً بكثير من السنن؛ لأسبابٍ اقتضاها مقامه في الكوفة، ولكنه إمام في الفقه، حتى إن الشافعي يقول: "الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه"، وقد أثنى عليه مالك وغيره.

ومنهم: محدثون انشغلوا بعلم الحديث والرواية ولم يشتغلوا بكثيرٍ من الفقه، ليس عجزاً، وإنما لأن الرواية شغلتهم عن الفقه، كما أن أبا حنيفة شغله الفقه عن الرواية.

وهذا له مثالات: كبعض الأئمة الذين اشتدوا في تتبع الطرق والبحث في العلل وما إلى ذلك كـ يحيى بن معين وابن المديني، وإن كان هذا لا يعني أن ابن معين ليس فقيهاً ..

فهو فقيه، لكنه اشتغل بعلم الرواية وغلب عليه علم الرواية عن الدراية.

ومنهم: فقهاء غلب عليهم الفقه ولكنهم معروفون بقدر من الحديث، وهؤلاء من يمكن أن يسمون "المحدثون من الفقهاء" أو "محدثو الفقهاء" ومن أخص مثالات محدثي الفقهاء: الإمام الشافعي، فإن مقامه في الفقه أبلغ من مقامه في الحديث، وهذا لا يختلف فيه.

والعكس: وهو القسم الرابع، فقهاء المحدثين، وهذا له أعيانٌ كثيرون، من أخصهم الإمام أحمد والبخاري رحمهما الله.

وهذا لا يعني أن الطبقة الأولى لا علم لهم بالحديث، ولا يعني أن المحدثين كـ ابن معين ليس فقيهاً، إنما يعني: أن ثمة تفاوتاً في طبقات هذا العلم.

وقد تقدم أنه من المتحقق ضرورةً أن ثمة فرقاً بين الأئمة في تقدير الاستدلال: بالقياس وبقول الصحابي.

فالإمام أحمد يقدم قول الصحابي على القياس.

وهناك من الأئمة من قال: يصار قبل قول الصحابي إلى القياس.

وهناك من قال: يصار إلى عمل أهل المدينة قبل هذين.

فهذه التراتيب تراتيب مختلفة، فإذا ما جاء علماء من بعد الأئمة، ونظروا في أصول أحمد فوجدوا أنه يرتب الأدلة بهذا الشكل: الإجماع والكتاب والسنة ثم قول الصحابي، ووجدت طائفة أن أبا حنيفة يقول: ثم القياس، ووجدوا مالكاً يقول: ثم عمل أهل المدينة، والإمام أحمد لا يعتبر الاستدلال بعمل أهل المدينة بنفس درجة مالك، ولا يعتبر القياس كـ أبي حنيفة، وأبو حنيفة لا يعتبر قول الصحابي كـ أحمد ..

فإذا تخير العالم بعد هؤلاء تراتيب علمية له ليطردها في مسائله الفقهية، فإذا تكلم في مسألة في الطهارة، أو الصلاة، أو الحج، أو الديات، أو الجنائز، أو القضاء، أو الشهادات والهبة ..

إلخ، يكون له منهج مطرد: أن القياس يقدم على قول آحاد الصحابة، أو أن قول الصحابي يقدم على القياس ..

فإن هذا هو الذي يعطي الأقوال الفقهية اطراداً.

ولذلك من يبطل المذهبية في هذا العصر ويقول: الكتاب والسنة والإجماع، نقول له: لم تكن التراتيب المذهبية من أجل مسألة الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن هذه مسألة متفق عليها، لكن السؤال: إذا جئت بعد الكتاب والسنة والإجماع -أي: بعد ظواهر الكتاب والسنة والإجماع- فإنك تجد مسائل كثيرة مبنية على أقوال الصحابة، ومسائل مبنية على القياس ..

إلخ، فبماذا سوف تأخذ؟

إذاً: المراد بالتمذهب هو هذا الوجه: الترتيب العلمي.

إذاً: ليس من الممنوع أن العالم يقول: أنا أقدم طريقة الإمام أحمد أو منهجه الفقهي على منهج الشافعي، أو يقول: أنا حنبلي.

على هذا الاعتبار، فإن هذا غير مخالف للسلفية، بل هو انتصار لقول من أقوال السلف، كما أنه لو ظهر لفقيه أن الإمام أحمد أصاب في مسألة واحدة من مسائل الفقه فانتصر له، فإنه لا يعتبر مخطئاً؛ فكذلك إذا ما نظر في تراتيب الأئمة في العراق، في الحجاز، في الكوفة، في بغداد

إلخ، وظهر له من تراتيب الأئمة جملة من التراتيب، لما بعد الأصول المنضبطة -وهي الكتاب والسنة والإجماع- فقدم تراتيب الشافعي على أحمد، فهذا معنى أنه شافعي، لكن إذا ما زاد وبدأ ينتصر لآحاد أقوال الشافعي، ويهجر السنن فهذا على ضلال، لكن يبقى أصل التراتيب لا بأس به.

هذا هو المقصود بالتمذهب السائغ ولا نقول المشروع.

<<  <  ج: ص:  >  >>