للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم الجهمية عند السلف]

[وأما تعيين الفرق الهالكة: فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين، قالا: أصول البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة.

فقيل لـ ابن المبارك: والجهمية؟ فأجاب: بأن أولئك ليسوا من أمة محمد، وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية].

قول المصنف رحمه الله: "وأما تعيين الفرق".

أراد بذلك التعيين لأصولها، وإلا فسبق في كلامه في هذه الرسالة -وفي غيرها- أنه لم يذهب أحد من السلف إلى تعيين الفرق المخالفة الثنتين والسبعين بالأعيان، بل هذا التعيين لا شك أنه غلط، إنما الذي عينه بعض أئمة السلف هو أصول أهل البدع ..

هذه مسألة.

المسألة الثانية في هذا التقرير من كلامه: أنه ذكر عن ابن المبارك أن أصول البدع أربع.

فقيل له: والجهمية؟ قال: أولئك ليسوا من أمة محمد.

وقال: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.

نقول: أحياناً يقال في بعض البحوث المعاصرة: إن بين السلف خلافاً في تكفير الجهمية، فطائفة كـ ابن المبارك يكفرونهم، ويرونهم ليسوا من أهل القبلة، ويرون أنهم أكفر من اليهود والنصارى، ويحتجون بمثل هذه الجمل المقولة في كتب السنة المسندة كما في السنة لـ عبد الله بن أحمد أو غيره عن ابن المبارك وأمثاله من السلف، ويجعلون هناك قولاً آخر لطائفة من السلف الذين لم يبادروا إلى التصريح بالتكفير أو حصل منهم مقام من مقامات التردد المعينة، فيجعلون هذا مذهباً مطرداً لهم.

ومنشأ هذا التقرير يرجع إلى عدم فقه مراد السلف بأحرفهم.

فقد تواتر عن كثير من السلف التصريح بتكفير الجهمية، حتى قال ابن القيم:

ولقد تقلد كفرهم خمسون ... في عشر من العلماء في البلدان

وقد نقل هذا اللالكائي أيضاً، وهذا لا يعني كثيراً، إنما الذي يهم: أن المراد بكلمة التجهم عند السلف: هو عدم الإثبات على التحقيق لصفات الله؛ فصاروا يسمون كل من قصر في هذا التحقيق للإثبات على طريقتهم على قدر من التأويل أو التعطيل جهمياً، هذا هو التجهم العام، وفيه يدخل المعتزلة وغير المعتزلة ممن ينفي الصفات؛ ولهذا سموا الفتنة التي وقعت للإمام أحمد والأئمة زمن المأمون العباسي: فتنة الإمام أحمد مع الجهمية.

مع أن أساطين المناظرة إذ ذاك كانوا معتزلة.

أي: أن السلف سموا المعتزلة جهمية مع أن المعتزلة يرون الجهم بن صفوان الذي تنسب الجهمية إليه كافراً، وهذا نص عليه كبار أئمة المعتزلة، وممن نص عليه القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني في كتاب المغني وغيره.

قال: "وإنما ألحق أصحابنا به من تقرير العامة؛ فصار عندهم كل من يقول: القرآن مخلوق جهمياً"، وهو يقصد بالعامة: أهل السنة.

القصد: أن المعتزلة تكفر الجهم، وهي تختلف معه في الأصول، فـ الجهم مرجئ في الإيمان، والمعتزلة على النقيض، وهو جبري في القدر، والمعتزلة يرون استقلالية العبد ..

إلخ.

فثمة أصول متناقضة بين الجهم وبين المعتزلة، حتى في الصفات والأسماء بينهم اشتراك كلي، وإلا فـ الجهم رجل غال في باب الأسماء والصفات، فهو ينفي الأسماء والصفات، ونظريته نظرية مفرطة في الغلو، حتى إن ابن تيمية يقول: "إن مقتصدة الفلاسفة كـ أبي الوليد ابن رشد كلامهم في الصفات خير من كلام جهم بن صفوان في هذا الباب، بخلاف كلام المعتزلة؛ فإنه في الجملة خير من كلام أبي الوليد ابن رشد ".

إذاً: حتى في باب الصفات هناك فرق، لكن لم يكن مقصود السلف التعيين لهذه الفروقات؛ لأن التعيين لهذه الفروقات -الفرق بين فلان وفلان من أهل البدع- ليس من شريف العلم عندهم، إنما الذي كان يعنيهم أن هذا المعنى مفارق لإجماع السلف، وأنه معنىً في الجملة مبني على مفهوم واحد، ومن هنا سموا كل تعطيل تجهماً، ونسبوا صاحبه إلى الجهمية.

أما من قصدهم ابن المبارك بقوله السابق فإنهم الطائفة الغالية من الجهمية، والتي ظهر من حالها المعارضة الصريحة لكلام الله ورسوله، وحين نقول: ليس كل من نفى الصفات يكون كافراً بعينه، لا يلزم منه أنه يمتنع أن يوجد فيهم كافر بعينه أو أن يوجد فيهم زنادقة، وسيأتي في كلام شيخ الإسلام في هذه الرسالة: أن جمهور أهل البدع ليسوا كفاراً، لكن قال: "إن بعض طوائفهم المغلظة كالجهمية يقع فيهم من هو على قدر من الزندقة والكفر".

إذاً مراد ابن المبارك من عبارته السابقة الغلاة ممن التزم هذا المذهب، فهؤلاء هم الذين يقال فيهم: إنهم كفار، وهم الذين ظهر تعصبهم وعنادهم وتكبرهم وكفرهم ..

إلخ.

وأما جمهور من يعطل الصفات فهؤلاء أهل بدعة، وأقوالهم كفرية، لكنهم لا يكفرون، وليسوا خارجين عن أهل القبلة، فضلاً عن أن يقال: إنهم أكفر من اليهود والنصارى ..

<<  <  ج: ص:  >  >>