والمنادي يشعر بالمرارة والخيبة، لأن هذا القطيع لا يعي ولا يستجيب له. وكيف يستجيب الكافرون لنداء الحقّ، وقد عطّلوا حواسهم جميعا، فأصبحوا صمّا بكما عميا، لا يعقلون، ولا يرجى منهم خير. وبعد استكمال تصوير المثل، عقّب عليه بحكم قوي على الممثل له وهم الكافرون وصوّرهم بقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ وجاء في نهاية التعقيب قوله: فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ وهذا التعقيب الصريح هو المغزى من تصوير هذا المثل، والمغزى أيضا من التصوير في صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، وهكذا يتناسق التعقيب مع تصوير المثل المضروب ويتفاعل معه في توضيح حقيقة الكافرين الذين عطّلوا حواسهم، التي هي وسائل المعرفة والإدراك، فاستحقوا بذلك هذا التصوير في المثل المضروب لهم.
ويمضي تصوير الأمثال لبيان تناقض المشركين في التصوّر والسلوك وذلك في قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الروم: ٢٨.
ويعتمد تصوير المثل هنا على واقع المشركين حيث كان لهم عبيد تحت أيديهم، لا يسوّونهم بأنفسهم، ومع ذلك هم ينسبون لله شركاء في ملكه، وهذا تناقض واضح، حين يجعلون لله شركاء في ملكه، في الوقت الذي لا يرضون لأنفسهم شركاء فيما يملكون.
وتبرز عقيدة التوحيد من خلال الدليل البرهاني المستخلص من المثل المصوّر، هي العقيدة الصحيحة لهذا جاء التعقيب بعد التصوير كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
فالعقلاء هم الذين يرفضون التناقض في التصور والاعتقاد، ويؤمنون بعقيدة التوحيد، التي هي الحقيقة الواضحة في الكون والحياة.
ويستمر التفاعل والترابط بين الأمثال المصوّرة، لبيان عاقبة الكفر أيضا، للتحذير والتخويف من سوء العاقبة يقول الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ النحل: ١١٢، وفي هذا المثل، تتفاعل صورتان في داخل السياق، صورة الرخاء والاستقرار والأمان، وصورة الخوف والفقر والحرمان، لتحقيق الأثر النفسي المطلوب في التخويف والتحذير، والصورة الثانية متولّدة من الصورة الأولى، ومرتبطة بها، بسبب كفران النعمة.