للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رسم الظلمة المحسوسة، الملائمة لظلمة النفوس، حتى إنّ هذه الظلمات أفقدتهم الرؤية الصحيحة للأشياء، فلم يعودوا يميّزون بين الحق والباطل، والهدى والضلال، لأنهم عطّلوا حواسهم التي توصلهم إلى الإدراك والمعرفة وفهم حقائق الأمور، فلا رجعة لهم بعد ذلك إلى الحق صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، وهذا القول الأخير في تصويرهم، جاء تعقيبا على تصوير المثل، فبعد الانتهاء من المثل، عاد التصوير إلى المشبه لإبرازه وإيضاح حقيقته، حتى ترسخ صورة المشبه في الأذهان على هذه الحالة المصوّرة، وهذه طريقة التصوير في الأمثال القرآنية. يتمّ فيها التركيز على المشبه، لأنه المقصود من ضرب المثل ولا يخفى ما بين الممثل، والممثل له من المشابهة والمماثلة مجسّمة

في صورة المثل المضروب.

ثم عقّب على المثل الأول بمثل آخر، زيادة في الإيضاح والبيان، وتجسيم حقائق النفوس، وعطف المثل الثاني على الأول بحرف العطف «أو» التي تفيد هنا التسوية، وليس الشك، ومعنى التسوية، هو نتيجة تفاعل المثلين في السياق وتجاورهما فيه، لتحقيق هذا المعنى، فكأن المثلين يتواصلان، ويترابطان، ويتعاونان في رسم ملامح المنافقين، وكشف خفايا نفوسهم.

ويتمّ التركيز في المثل الثاني على تصوير حركة المنافقين، المضطربة التي لا تثبت على مبدأ أو رأي.

فهم في تيه واضطراب وقلق، وحركة متذبذبة، بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم لاتباع خطوات الشيطان، وبين ما يقولونه في لحظة، ثم يرتدون عنه فجأة، وبين إظهارهم الإيمان، وإضمارهم الكفر.

وقد جسّمت هذه الحركة النفسية لهم، في الحركة التصويرية للمشهد المرسوم في الصيّب النازل والرعد القاصف، والبرق الخاطف، وإدخال الأصابع في الآذان، والخطوات الفزعة المتحفزة للإفلات فالصورة في المثل تجسّم الحالة النفسية للمنافق في صورة حسية متحركة تجمع كل عناصر التصوير لتحقيق التماثل والتشابه بين الممثل، والممثل له، لتحقيق الغرض الديني من وراء التصوير الفني.

يقول الزمخشري في تفضيل المثل الثاني على الأول: «فإن قلت أي التمثيلين أبلغ؟ قلت:

الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة، وشدة الأمر وفظاعته، ولذلك أخّر، وهم يتدرّجون في

<<  <   >  >>