لأن صورته تنطبق على المشبه. فاليهود حملوا التوراة في عقولهم وصدورهم ولكنّهم لم يستفيدوا بما جاء فيها من أفكار وأحكام، ودعوة إلى الإيمان برسول يأتي من بعد موسى، اسمه أحمد، فكان مثلهم كمثل الحمار، يحمل على ظهره كتبا نفيسة، وهو لا يدري ما فيها، ولا ينتفع منها، وليس له من حملها إلا التعب والنصب.
فالمثل لا يصوّر اليهود بالحمار في حالة الإفراد، وإنما يمثّل حالتهم في حمل التوراة مع عدم الاستفادة منها، بصورة الحمار يحمل أسفارا، ولا ينتفع منها.
فصورة المثل صورة مركبة وليست مفردة، وهو يجمع إلى جانب التصوير الموحي التحقير والترذيل لليهود، لذلك جاء التعقيب على المثل بقوله: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ ....
ومثل آخر يتعلق بالنصارى، وقد قال النصارى في عيسى كلاما كثيرا، لأنه ولد من غير أب، فمنهم من جعله إلها، ومنهم من جعله ابنا لله، وأثاروا الجدل حول ولادته من غير أب، علما بأنهم لم يجادلوا في خلق آدم، الذي خلق من غير أب ولا أم، فضرب المثل القرآني لهم لإقناعهم، وإقامة الحجة عليهم من خلال تصوير هذا المثل إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران: ٥٩.
فالمثل هنا موجز واضح، يقيم الحجة على بشرية عيسى عليه السّلام، وينفي الشبهات حول معجزة ولادته، وينفي التصورات الباطلة حول ألوهيته. وذلك عن طريق التماثل بين المشبه والمشبه به، وربط المعجزة الصغرى بالمعجزة الكبرى، حتى تتضح حقيقة المشبه وهو عيسى.
والمثل يوضّح أن منطق الإعجاز في الخلق من عدم، يختلف عن المنطق المعروف في التزاوج والتناسل، ويردّهم المثل هنا إلى التراب، وهو الأصل في تركيب البشر، وهذا هو الإعجاز، وهو ما يجب أن يقاس عليه عيسى في خلقه وتكوينه، فآدم خلق مباشرة دون قانون طبيعي وفق إرادة الله ومشيئته، كُنْ فَيَكُونُ وهذا سرّ الحياة الغامض الذي لا يعرفه إلا الله سبحانه، وعيسى يقاس بآدم وفق المشيئة والإرادة الإلهية، وإرادة الله في الخلق والإيجاد لا تخضع لقانون يعرفه الإنسان أو يتصوره، لأن الله هو واهب الحياة، وواضع القوانين لتسيير الكون والحياة، وإذا كان الإنسان في العصر الحديث قد اكتشف بعض القوانين المادية المبثوثة في الكون والحياة، فإن قانون الحياة فإن قانون الحياة هو فوق المادة، وليس أمام