والصورة في المثل القرآني هنا، ترسم الدنيا، وهي قائمة نضرة مغرية، وكذلك وهي فانية، والتقابل بين هاتين الحالتين للدنيا، أو الصورتين لها في المثل الواحد، يبرز نظام العلاقة بين الصورتين في السياق الواحد، وتفاعلهما معا، لإظهار المعنى، وتحريك الخيال وهو يتابع سرعة التحوّل في السياق من الصورة الأولى للدنيا، إلى الصورة الثانية. بشكل نام متحرك مثير، ويقوم الخيال بملء الفجوات لنموّ الصورة الأولى للدنيا بأطوارها أو مراحلها المختلفة، حتى تغيب في الصورة الثانية لها، وهي صورة الفناء، وتنطبع صورة الفناء بقوة في مخيلة الإنسان، ليدرك أن التعلّق بالدنيا وهي في صورتها الأولى مقبلة ومغرية ومتزيّنة هو نوع من الأوهام الخادعة، طالما أنها إلى زوال وفناء، وتطلّ الحقيقة الخالدة من وراء الدنيا الفانية، وهي حياة الخلود يوم القيامة وما فيه من نعيم دائم، وعذاب مقيم.
وتتعاون العلاقات التعبيرية والتصويرية في إبراز الغاية من المثل المضروب، فالماء هو أصل الحياة، واختلاطه بالنبات، وجريانه في عروقه، يوحي بحب الناس للدنيا، وتغلغلها في قلوبهم، ثم تشخيص الدنيا، وجعلها كالعروس في زينتها وإغرائها، تفتن الناس بزخرفها ومظاهرها الخادعة، فيتعلق الناس بها، وينغمسون في لذائذها، ثم تحدث المفاجأة في غمرة الافتتان بها أَتاها أَمْرُنا فتصبح «حصيدا» ويترك للإنسان أن يتخيل مشهد الأرض الحصيد اليابسة الزائلة، ليذكر صورتها الأولى في نضارتها وزينتها، فيدرك أن زينتها خادعة، وأن حقيقتها فانية، وقوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ تأكيد على ذلك المعنى، وإيحاء بقصر مدة الصورة الأولى، وسرعة زوالها، وانمحائها، وصورة فناء الدنيا تلقي في الحس، احتقارها، وخداع مظاهرها، وتوجّه الإنسان إلى الحياة الباقية في الدار الآخرة، وهذا ما يهدف إليه تصوير المثل هنا.
ويرتبط المثل الثاني للدنيا، بالمثل الأول بعدة روابط تعبيرية وتصويرية وفكرية، من أهمّها، اعتماد تصوير المثل على «الماء» واختلاطه بالنبات، وتغلغله في عروقه، للإيحاء بحب الناس للحياة الدنيا، ثم التماثل في نهاية تصوير الدنيا بين المثل الأول والثاني، في فناء الدنيا، والإيحاء بالدار الباقية، وقوة الله القادر على كل شيء. يقول الله تعالى: