للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ البقرة: ٢٦٤.

وفي هذا المثل أيضا، نلاحظ، نموّ الصورة، وتدرّجها في أداء المعنى، وهو بطلان الإنفاق القائم على الرياء أو الأذى، فبدأ المثل بتصوير المنّان بالمرائي الكافر، ثم جاء تصوير المثل لهذا المرائي الكافر. في نموّ متدرج، وتفاعل بين صورة المثل، وصورة المرائي، عن طريق المجاورة في السياق، والتماثل بين صورة المرائي، وصورة الممثل به هنا.

فالمرائي يشبه صورة الزارع على صخرة صلدة ملساء، عليها تراب رقيق، وهو رمز للرياء المبطل للأعمال، فينزل المطر من السماء فيجرف هذه الطبقة الرقيقة من على الصخرة وما زرع فيها، لينكشف الصفوان حجرا صلدا غير قابل لامتصاص رحمة السماء، والحجر الصلد، هو قلب المرائي في قسوته، وعدم صلاحيته لامتصاص الخير، لهذا فإنّ إنفاق المرائي ضائع، كما يضيع الغيث الهاطل، فوق الصخر الأصم. وتعاقب الفاءات في التعبير «فمثله، فأصابه، فتركه» يوحي بسرعة إحباط هذا الإنفاق، وتلاشيه دون أن يمكث ولو وقتا قصيرا.

وقد وحّدت الصورة في المثل بين المؤمن الذي يبطل صدقاته بالمنّ والأذى، والكافر الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، لتماثلهما في النية من ناحية، ولزجر المؤمن وتحذيره من هذا السلوك المشين من ناحية أخرى.

ثم يأتي التعقيب بقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ على طريقة تصوير الأمثال القرآنية في التعقيب على المثل، بعد الانتهاء من تصويره، وبناء حكم عليه، لبيان المغزى من تصوير المثل، والتركيز على المشبه لتحذيره.

ثم يعقبه بمثل آخر، للمنفق ابتغاء وجه الله، جريا على طريقة التصوير الفني في القرآن، في عرض الصور المتقابلة في السياق، لإيضاح الحقائق المصورة، وإدراك الفروق بين المعاني والصور، يقول الله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ البقرة: ٢٦٥.

والصورة في المثل هنا، جنة بربوة، في مكان مرتفع قليلا، حتى تبرز هذه الجنة أمام العيون فتراها، ولأن شجرها أجمل، وثمرها أطيب، فينزل عليها المطر من السماء، فتنمو

<<  <   >  >>