العربي القديم، مقابلة النقيض للنقيض، فتبدو صورة الأنهار الجارية، مقترنة بظلال العيش الرغيد أُكُلُها دائِمٌ فهي مستمرة العطاء والثمار، لا يعتريها التلف أو الانقطاع كما في الدنيا، وفكرة البقاء في الثمار، هي فكرة الخلود للإنسان في ذلك النعيم الدائم، والنفس تميل إلى ذلك الخلود، وتتشوق له.
والظلّ الدائم يضفي على الصورة ظلالا ندية للحياة في اليوم الآخر، والظل الدائم مقصود بالتصوير ليقابل الظلّ الزائل في الدنيا، لأنه مرتبط بالزمن الفاني المتغيّر بحركة الشمس، والتصوير بالظلال له وقعة في نفس العربي القديم، الذي اعتاد حياة الصحراء بشمسها المحرقة، كما له جماله الأخّاذ في تظليل الصورة المرسومة لليوم الآخر.
فالصورة في المثل، مثيرة للخيال، فيها الأنهار الجارية، تحت الأشجار الوارفة، والثمار الدانية الدائمة، والظلال الممتدة الباقية، بالإضافة إلى ما يوحيه هذا الجوّ الجميل، من حياة رغيدة، ولذائذ طيبة، ويأتي التعقيب على النعيم بقوله: تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا ثم جزاء الكافرين مختلف وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ.
وهكذا تتقابل الصورتان في السياق، صورة الجنة المفصّلة للتشويق إليها، وصورة النار الموجزة لإيقاع الرهبة في النفوس.
ويرتبط مثل آخر بهذا المثل، ولكنه أكثر تفصيلا لمشهد النعيم والعذاب يقول الله تعالى:
وإذا قارنا بين المثلين نلاحظ أن المثل السابق جاء موجزا، يركز على فكرة الخلود الواضحة، في الظلال الدائمة، والثمار اليانعة المستمرة، لطمأنة النفس، وبعث الراحة فيها، بعد هذا التحوّل والانتقال إلى اليوم الآخر. والخلود يريح النفس، ويذهب عنها مشاعر القلق والخوف، وقد ورد هذا المثل في سياق يقتضي التركيز على فكرة الخلود في الآخرة، والفناء في الدنيا. فقد تحدث السياق عن الشرك فأراد الله سبحانه أن يوحي لهم بأن حياتهم فانية، والخلود في الآخرة إمّا في النعيم أو العذاب، أما هذا المثل المفصّل للنعيم والعذاب، فقد ورد في سياق يحثّ على قتال المشركين، فاقتضى ذلك تزيين الجنة للترغيب