وتشبه حالته بحال الكلب اللاهث دائما، وهذه الصورة المحقّرة لشأنه، تماثل حالة الذي انسلخ من آيات الله بعد أن عرفها وآمن بها، فكما أن الكلب يلهث من الإعياء والجهد، ويلهث في الأمن والراحة أيضا، فكذلك هذا الشخص، كان ضيقا متبرما من تحمّل آيات الله، يلهث من التزامه بها، وحين انسلخ منها، ظلّت حالته كذلك، فالمماثلة واضحة بين الممثل، والممثل له.
ويضرب المثل للقيم الإيمانية الثابتة، والقيم الدنيوية الزائلة، بقصة الرجلين والجنتين فأحد الرجلين يمثّل الغني الذي أبطرته النعمة، فنسي ربه، وكفر به، معتزا بما يملك من مال، والآخر يمثل الرجل المؤمن الفقير المعتز بإيمانه.
وهذا المثل القرآني من الأمثال المطوّلة، يضم مشاهد الطبيعة المصوّرة، ومظاهر الثراء والغنى وأحوال النفوس في البطر والغنى. ومشهد التدمير والخراب في نهاية المثل المضروب.
ويبدأ تصوير المثل أولا بمشهد الجنتين، وما فيهما من مظاهر الجمال والثراء، يقول الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً، وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ الكهف: ٣٢ - ٣٤.
والتصوير المفصّل للجنتين هنا، يقصد به بيان ثراء هذا الرجل الذي بطر نعمة الله عليه، فالجنتان مثمرتان، من أعناب، تحيط بهما أشجار النخيل، وبينهما الزروع والثمار، ويتوسطهما نهر جار فيكتمل تصوير هذا المشهد الطبيعي بكل ما فيه من جمال ومنفعة، وثراء.
ولكن تصوير الطبيعة هنا، مرتبط بالله سبحانه الخالق، فهو الذي جعل لأحدهما جنتين، وهو الذي حفّهما بأشجار النخيل، وجعل بينهما زرعا، وفجّر خلالهما نهرا، فإسناد هذه الأفعال إلى الله هو إسناد حقيقي أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ كما أنّ هذا الإسناد، مرتبط بالغرض الديني من التصوير فالتعبير اللغوي، والتصوير الفني، يشتركان في رسم ملامح هذا الرجل الذي بطر نعمة الله عليه، وقابل ربه المنعم بالجحود والكفران.
ثم ينتقل تصوير المثل من رسم مظاهر الثراء في الجنتين الجميلتين، وما توحيان به من حياة رغيدة ورخاء ودعة، إلى التركيز على القضايا الفكرية الأساسية التي هي غاية التمثيل.