فقد كانوا يتمنون العير، وليس النفير للقتال، لأن العير ليس في ملاقاتها شدة أو ابتلاء، على عكس النفير ذي الشوكة والحدة والقوة، فالصورة هنا تجسّم الفارق بين الإرادتين، ولكن الله كان يريد شيئا آخر، يريد أن يضرب قوة قريش المتغطرسة بهذه الفئة المؤمنة الضعيفة، ليكسر شوكة قريش، ويحدّ من معارضتها لهذا الدين، يقول تعالى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ الأنفال: ٧، والتصوير بقطع الدابر، يوحي بالاستئصال الكامل للكافرين، ويلاحظ في الصورة التركيز على قوة الله في الحدث، فالله هو الذي أخرج قريشا من مكة، وأخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته مع أصحابه، وساق بعض المؤمنين سوقا إلى المواجهة، وهم كارهون لها، فتجمع الفريقان، في ساحة المعركة وجها لوجه، وتنقل الصورة لنا مواقع الفريقين وكأننا نشاهدها الآن يقول تعالى: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ الأنفال: ٤٢.
فالصورة هنا ترسم أرض المعركة بالكلمات، وتحدد موقع كل فريق، وموقع القافلة القريب من أرض المعركة وهذه الصورة هي بمثابة الإطار لها، وفي داخل هذا الإطار المكاني والزماني، وقعت أول معركة في الإسلام. فالمساحات الواسعة مرسومة بإيجاز، والمواقع مصورة من خلال قربها وبعدها من المشاهد العدوة الدنيا- العدوة القصوى- الركب أسفل من جهة البحر.
ويلاحظ أن تصوير المواقع يتمّ من وجهة المسلمين أولا، فالعدوة الدنيا هي موقع المسلمين من جهة المدينة، والعدوة القصوى، تقابلها في الجهة الأخرى وهي موقع الكافرين، أمّا القافلة، فقد كانت تسير هناك بعيدا عن المكان. في الخط الساحلي، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ.
فالصورة هنا ترسم الأبعاد المكانية الحسية، كما رسمت من قبل الأبعاد النفسية والحسية لحركة المسلمين، ونحسّ بقوة الله، تدير هذه المعركة، فتحرك الفريقين للمواجهة، وتوزعهما في مواقعهما المتقابلة على أرض المعركة، مع تصوير قافلة قريش، تسير بعيدا عن أرض المعركة، لنفي أي شبهة دنيوية عن أهداف المعركة القائمة.
ثم إنّ قوة الله أيضا كانت تقلّل كل فريق في عين الآخر، دفعا له لمواجهته يقول تعالى: