يقبضون أرواح المشركين، ويضربون وجوههم وأدبارهم، وتكاد الأفعال المضارعة المتكررة في التصوير، تحيي المشهد وتنقله من الغيب المجهول، إلى المشهد المنظور، ثم يتحوّل السياق من الإخبار بالغيب، إلى أسلوب الخطاب لكفار مكة وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، والتهكم واضح في صورة إذاقة عذاب الحريق، وهي صورة مؤلمة للكافرين.
وبعد تصوير هذا المشهد يأتي التعقيب عاما على معركة بدر ونتائجها، بإقرار حقيقة لسنة كونية من سنن الله وهي أخذ الكافرين بكفرهم، وتعذيبهم في الدنيا قبل الآخرة، وهذه سنة ماضية نفّذت في قريش يوم بدر، كما نفذت في فرعون وجنوده في القديم يقول تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... الأنفال: ٥٢.
وهكذا رأينا في تصوير معركة بدر أنه لم يقصد بالتصوير التسجيل التاريخي لها، وإنما تقرير الحقائق الدينية الثابتة من وراء التصوير، وتصحيح التصورات، ومعالجة النفوس في مثل هذه الوقائع، وإبراز القدرة الإلهية الفاعلة والمؤثّرة في توجيه الوقائع والأحداث، وبيان سنة الله الماضية في تقرير نتائج المعارك، وتربية النفوس بالأحداث الواقعة، لأنها تكون أوقع في الحس والشعور، لأنها تربية عملية ميدانية، وليست تربية نظرية، تقتصر على التوجيهات المجردة البعيدة عن الواقع. فالفكر الديني إذا يتفاعل مع الواقع، في تربية الفرد وإعداد الأمة، وهو فكر إيجابي، لأنه مرتبط بالواقع المعاش وهذا ما تجسّده الصورة في نقل الأحداث الواقعة.
وهذه السماوات لتصوير الأحداث، تكاد تكون عامة في كل الأحداث التي تناولتها الصورة الفنية وإن اختلفت طريقة التصوير من معركة لأخرى، بحسب تغيّر الظروف والمواقف، وحالات النفوس إلا أن السمات العامة للتصوير، لا تكاد تخرج عما ذكرناه.
ففي تصوير معركة «أحد» أيضا نلاحظ تقرير المبادئ الدينية من وراء التصوير، ومعالجة النفوس الضعيفة، وتربية الأمة الإسلامية بالأحداث وغير ذلك مما ذكرناه آنفا.
وتبدأ الصورة باستحضار بداية مشهد المعركة يقول تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ آل عمران: ١٢١.
وتستعيد الصورة المشهد بوساطة الفعل المضارع تُبَوِّئُ فيستحضر الحدث من الزمن الماضي للزمن الحاضر حتى يشخصه في الأذهان، ثم نلاحظ البعد الزمني في المشهد في