قوله غَدَوْتَ إلى جانب البعد المكاني تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ فيرتسم جو المعركة بتحديد المواقع، وتحديد التوقيت الزمني لها أيضا، وهذا هو المشهد المنظور للصورة الحسية، وهناك وراء الصورة الحسية، الصورة الغيبيّة، تظهر من وراء المشهد المنظور وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فالله حاضر المعركة، وكل معركة يسمع ويرى، ويعلم ما يدور في الحس والشعور، وهذه الحقيقة الدينية ملازمة لتصوير الأحداث لتعميق الارتباط بالله سبحانه في كل الأمور، وإبراز قدرة الله في الأحداث، كما هي ظاهرة في الكون والأحياء.
وتجسّم الصورة خواطر النفوس لطائفة من المسلمين، همّت أن تبقى في المدينة، ولا تخرج مع المسلمين لقتال المشركين، وكان الهمّ مجرد خاطر لم يطلع عليه أحد، ولكن الله لا تخفى عليه خافية، يقول تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ آل عمران: ١٢٢.
وتصوير خواطر النفوس هنا، فيه إشارة إلى حضور الله معهم، يشد على أيديهم، وينصرهم، وهذه طريقة القرآن الكريم في تصوير الأحداث، لتوجيه المؤمنين، وتسديد خطاهم.
فالصورة القرآنية ليست مجرد تسجيل الأحداث، وإنما غايتها إحياء الأحداث، بكل ما صاحبها من حركات حسية ونفسية، لتوجيه المؤمنين نحو المبادئ الدينية الثابتة.
وفي سياق تصوير معركة أحد، يستعرض مشاهد من معركة بدر وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ... آل عمران: ١٢٣، للتذكير بنصر الله لهم، وتذكيرهم بما صاحب معركة بدر من حقائق دينية، وسنن إلهية في النصر والهزيمة ليبقى المسلمون على صلة بهما، والتيقن بأن النصر بيد الله، فهو وحده، يقرر نتائج الأحداث، كما يقرر مصائر الأحياء.
وقد أشيع في أثناء المعركة أن الرسول قد قتل، وقد أثّرت هذه الإشاعة في نفوس المسلمين، فنقلت الصورة هذا الجوّ النفسي، مع التوجيه نحو القواعد الدينية الثابتة يقول تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ آل عمران:
١٤٤.
وقد جاءت الصورة تحمل معنى التهديد، فالرسول بشر، وينطبق عليه ما ينطبق عليهم من الموت أو القتل وهو رسول كبقية الرسل من قبله، فهم ليسوا مرتبطين، بحياته أو موته،