للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وذات الصدور، كناية عن الأسرار الملازمة للصدور، فالله يعرف أسرار النفوس، ويعرف ما وراء الاحتجاج على المعركة من أسرار وهواجس، يكشفها لأصحابها أولا، وللناس جميعا ثانيا، لأنهم قد يمرون بمثل هذه الأحداث فتجيش صدورهم بمثل هذه الأوهام حول المعركة مع الباطل. والحقيقة المصورة هنا، أن الموت قدر الله النافذ لا محالة، وله موعد محدد، لا يتقدم ولا يتأخر، لهذا فإن المعركة لا تقدّم أجل الإنسان، كما أن التقاعس عنها لا يؤخره عن موعده المرسوم. وقد صوّرت هذه الحقيقة بقوله:

لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ

وصورة المضجع الذي هو مكان الراحة والاسترخاء، يتحوّل هنا إلى قبر لصاحبه، الذي كتب عليه القتل حسب الأجل المرسوم له.

ثم تعود الصورة من جديد، لتلمس طائفة الفارين، وتربط هزيمتهم، بوساوس الشيطان، حتى يرتدع المؤمنون عن الفرار يوم الزحف، فالشيطان هو الذي استزلّهم ليتبعوه فارّين من المعركة. يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ... آل عمران: ١٥٥.

وصورة الشيطان غير محسوسة، ولكنّ أثرها محسوس مجسّد في حركة الفرار من المعركة. وكلمة اسْتَزَلَّهُمُ ترسم بجرسها صورة حية للشيطان، وهو يجرّ قدم المقاتل لتزلّ زلة، تتبعها زلّات حتى ينقاد أخيرا لخطوات الشيطان، فيتبعه في حركة الفرار من المعركة.

والفعل في صيغته الطلبية، يوحي بطريقة الشيطان في الوسوسة، بشكل متدرّج، حتى يقع الإنسان في مصيدته أخيرا. وهكذا توظّف هذه الصورة المجهولة بمالها من رصيد نفسي في قلب المسلم، ورصيد تاريخي وديني، في عداوة الشيطان للإنسان في معالجة النفوس التي اضطربت وانهزمت حتى يعيدها من جديد إلى طريق الاستقامة على منهج الله سبحانه.

والصورة في غزوة الأحزاب، تعرض بداية المعركة ونهايتها، قبل عرض التفصيلات والمواقف، حتى يتّضح أثر القدرة الإلهية في تلك المعركة، وفضل الله على المؤمنين، يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً الأحزاب: ٩.

فالصورة هنا ترسم لنا بداية المعركة ونهايتها بكلمات موجزة، فقد جاء جنود، والتنكير

<<  <   >  >>