وتتعاون هذه الصور فيما بينها على توضيح حقيقتهم من جميع الجوانب فهم رضوا بأن يكونوا مع العجزة والأطفال والنساء في القعود عن المعركة دلالة على سقوط همتهم، يقول تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ التوبة: ٩٣.
كما أنهم فقدوا الإحساس لأن قلوبهم مطبوعة ومغلقة: وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ التوبة: ٩٣، ويحلفون الأيمان الكاذبة لسوء أخلاقهم: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ التوبة: ٩٥.
فهم- بهذه الأفعال القذرة- رجس، وجزاؤهم جهنم على أفعالهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ التوبة: ٩٥.
وهناك طائفة من المؤمنين، لا يملكون نفقة الجهاد، وقد أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في المدينة، ولكنهم كانوا متألمين ومتأثرين لعدم خروجهم مع رسول الله، وقد جسّمت الصورة صدق نفوسهم وشدة تأثرهم بفيض الدموع، يقول تعالى فيهم: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ التوبة: ٩٢.
فهذه الصورة تعبر عن شدة التأثر والصدق حيث إن «العين جعلت كأنّ كلّها دمع فائض»«١» كما يقول الزمخشري، وهناك أيضا الثلاثة الذين تخلفوا بدون عذر، وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وقصتهم مذكورة في كتب السيرة والتفسير، يقول الله تعالى في تصوير حالتهم: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التوبة: ١١٨.
والصورة هنا تجسّم حالتهم النفسية، وكما كانوا فيه من ضيق وكرب، بسبب تخلّفهم عن المعركة، فالأرض على سعتها تضيق بهم، وتأخذ بخناقهم، فلا يجدون فيها إلا الضيق والكرب، حتى نفوسهم. أيضا ضاقت عليهم، فشعروا بالاختناق في أعلى مداه، فهم لا يجدون سرورا ولا أنسا بعد مقاطعة المجتمع الإسلامي لهم، فالأرض تضغط عليهم من الخارج، ونفوسهم تضغط عليهم من الداخل، وليس لمثل حالتهم إلا الله سبحانه، وبعد هذا الكرب الخانق، يأتي الفرج، وتنقشع غمتهم.