للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقول تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ البقرة: ١٤٣.

فقد أراد الله اختيار العرب الذين كانوا يقدسون المسجد الحرام، فجاء الاتجاه إلى المسجد الأقصى لتجريد المؤمنين من كل ما يلتبس في النفوس من العادات القديمة أولا، ثم ليدرّب المؤمنين على الطاعة لله، رغم أعرافهم وتقاليدهم التي ألفوها من تقديس للمسجد الحرام، وليعلم من يطيع الأوامر ممن ينقلب على عقبيه أخيرا. فلما تجردت النفوس لله واتجهت حيث أمرها الله، جاء الأمر بالتحوّل إلى الكعبة استجابة لتضرّع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى في تصوير تضرّع الرسول من أجل ذلك: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... البقرة: ١٤٤.

وتعتمد الصورة على الفعل المضارع نَرى لإحياء المشهد وجعله شاخصا حاضرا، وهو في صيغة الجمع يوحي بالتعظيم لله سبحانه لأنه هو الذي يرى، كما أن الصورة تعتمد على المصدر تَقَلُّبَ ولا تعتمد على الفعل للإيحاء باستمرار الحدث، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائم التضرع والدعاء لكي يلبي الله رغبته في التوجه إلى الكعبة قبلة إبراهيم عليه السّلام، ولكن الصورة لا تصرّح بذلك، ولا تذكر بماذا كان يدعو حتى أجيب طلبه.

ويصوّر القرآن الكريم أيضا «مسجد الضرار» الذي بناه المنافقون في المدينة، ليتخذوه مقرا للتآمر والكيد، ضد المسلمين، وسموه «مسجدا» زيادة في التمويه وإخفاء أغراضهم في انتظار عدو الله الفاسق، لمقاتلة المسلمين كما ورد ذلك مفصلا في كتب التفسير «٣»، وقد أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بهدمه.

يقول الله تعالى مصورا نيات المنافقين من بنائه، وأثر هدمه في نفوسهم: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ التوبة: ١٠٩.

والفارق كبير بين البناءين، بناء يعتمد على قاعدة قوية من الحق والإيمان والتقوى، وهو مسجد قباء، وبناء آخر يعتمد على قاعدة رخوة ضعيفة من الباطل والنفاق وهو مسجد الضرار.

ويصور القرآن مسجد الضرار وهو مبني على شفا جرف هار، فهو يهتز ويتأرجح لأنه


(٣) انظر صفوة التفاسير: ١/ ٥٦١. والكشاف: ٢/ ٢١٣.

<<  <   >  >>