الحاضر، ثم يبدأ استعراضه كأنه ماثل أمام العيون الآن، والحركة التصويرية السريعة في إغراق ولد نوح، بعد رفضه نداء أبيه له وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، والانتقال من أسلوب النداء بين نوح وولده، ثم فجأة يأتي الفعل الماضي وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ ليرسم سرعة حركة الموج في إغراقه، حتى غدا ماضيا، بعد أن كان حاضرا في النداء مع أبيه، والعطف بالفاء فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ يؤكد سرعة الإغراق بين حركة الموج، وسرعة ابتلاعه.
ثم يتوجه الخطاب الإلهي إلى الأرض فتؤمر بابتلاع المياه والسيول، وإلى السماء بالإقلاع عن المطر، وهذا على طريقة القرآن الكريم في تشخيص الأشياء الجامدة وبعث الحياة فيها، زيادة في قوة التصوير والتأثير.
والإيحاء بالقدرة الإلهية المالكة لهذا الكون بأرضه وسمائه، ثم يخيّم السكون على الأرض بعد حركة الطوفان المدمرة والمرعبة، وترسو سفينة نوح على الجودي في مشهد تصويري رائع، عقب هذا الفوران والطوفان في الأرض والسماء، وداخل النفوس أيضا، ولا يهتم التصوير برسم ملامح الوجوه، وحالات النفوس، وسط هذه الأهوال، لأن هذا متروك للخيال أن يستحضره من خلال تصوير الأهوال المرعبة، فالتصوير هنا يركّز على الأحداث دون الأشخاص بقصد التخويف والتأثير من سوء عاقبة تكذيب الرسل.
وترد أيضا حلقة من حلقات القصة في سورة «العنكبوت» التي تتعلق بطول مدة دعوته، وضخامة الجهود التي بذلها في سبيل هداية قومه، ولكن محصول هذه الدعوة كان ضئيلا إذا قورن بطول المدة، وضخامة الجهود التي بذلت في هذا السبيل يقول الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ، فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ العنكبوت: ١٤ - ١٥.
وهكذا تتكامل حلقات أحداث القصة من خلال هذه السور المتعددة، لتحقيق أغراضها الدينية من خلال الأنساق التعبيرية التي تقتضيها من ناحية، وكي يكون قارئ القرآن على صلة بأحداث القصة، متفاعل معها، ومع التوجيهات الدينية المصاحبة لها من ناحية أخرى.
فهذه الحلقات ليست قصصا مستقلة، وإنما هي حلقات قصة واحدة، وأحداث واحدة، لهذا فإننا نجد الترابط فيما بينها، والعلاقات التصويرية التي تشد الحلقة إلى الأخرى، حتى تتكون القصة المتكاملة بكل أحداثها، وحلقاتها، وأشخاصها، وإيحاءاتها الدينية والفنية.