المتحجرة لم تدرك ما وراء تحطيم الأصنام من دلالات فكرية ودينية، فراحوا يسألون عن الفاعل، ولم يلتفتوا إلى الحقيقة المحسوسة من وراء تحطيمها، وهذا يوحي بمنتهى الجمود والتحجر الذهني، لهذا حين سألوا إبراهيم عن الفاعل. ردّ عليهم بسخرية لاذعة من تصوراتهم، وطريقة معالجتهم للأمور، فطلب منهم أن يسألوها عن الفاعل.
فشعروا بالخيبة، ومرارة السخرية في داخل نفوسهم، ولكنّ هذه المراجعة للنفس لم تطل فسرعان ما أجابوه أن أصنامهم لا تنطق. يقول تعالى في تصويرهم: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ الأنبياء: ٦٥.
وحركة النكوس المصورة هنا تدل على خواء الرءوس من العقول والتفكير السليم. ويتضح ذلك في استدلالهم بحجة تظهر بطلان عبادة الأصنام، فهي حجة عليهم، وليست لهم كما يريدون.
ويشتد إبراهيم عليهم، في عبادتهم لآلهة صمّ، لا تنفع ولا تضر، ولكنهم بدلا من أن يدركوا حقيقة الألوهية، فيؤمنوا بالله الواحد. أخذتهم العزة بالإثم، وأعلنوا تمسكهم بها،
ولجؤوا إلى أسلوب التهديد، وهو أسلوب من لا يملك قوة الحجة والإقناع، يقول الله تعالى في ذلك: قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ... الأنبياء: ٦٨ - ٦٩.
ونجد حلقة جديدة في قصة إبراهيم تعرض في سورة «الشعراء» وهي تصوير مقومات العقيدة على لسان إبراهيم وحواره مع قومه، وعرضه لصفات الله في الخلق والهداية، والإطعام والسقاية، والابتلاء والشفاء والإماتة والإحياء، وغفران الذنوب، وتذكيره باليوم الآخر، وما فيه من نعيم وعذاب، وهذا الجزء جديد، لم يعرض في أثناء تصوير أحداث قصة إبراهيم، وفي سياق التذكير بالآخرة يعرض علينا مشهدا من مشاهد القيامة، وهو حدث لم يقع، ولكنه يعرضه في سياق الأحداث، وكأنه قد وقع فعلا، وفيه نرى المشركين مع أصنامهم يواجهون مصيرهم في النار، بعد أن تكشفت لهم حقيقة الأصنام، فتركوا يواجهون عاقبة شركهم وكأنهم صاروا إليه فعلا.
يقول تعالى في ذلك: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ، فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ، قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ،