للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أيضا، وكأن الطوفان صار علما على قوم نوح في ذاكرة الناس، فاستغنى عن ذكر نوح في هذا الشريط التصويري السريع.

ويلاحظ أن صورة نجاة نوح، تتحوّل إلى صورة حاضرة للمخاطبين، ليصبحوا هم الناجين، ويخاطبهم التعبير على أنهم هم الناجون من الطوفان المدمّر، وكأن نجاة آبائهم هي نجاة لهم أيضا، لأنهم سبب وجودهم فكان «حمل آبائهم منّة عليهم، وكأنهم هم المحمولون» «١٣» في السفينة الناجية التي أصبحت عبرة وعظة في تاريخ البشرية لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ الحاقة: ١٢، وتصوّر البشرية الحاضرة، من نسل الناجين من الغرق والطوفان، صورة ذهنية مختزنة في ذاكرة البشرية تتعظ بها على الدوام، إن وعت وأدركت الحقائق، وسمعت لتوجيه القرآن وآياته.

وأحيانا تعتمد الأحداث على التصوير الهادئ، وكأنه قصّ عادي، ولكن بتعبير معجز، مع ملاحظة الحركات الحسية المعبّرة عن الحركة النفسية في أثناء التصوير. كقوله تعالى:

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ، وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ، قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي

يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ

القصص: ٢٢ - ٢٨.

فالتصوير هنا هادئ لين، يعتمد على الفعلين المضارعين «يسقون وتذودان» في المشهد الأول، وذلك لإحياء الأحداث من الماضي البعيد، إلى الحاضر القريب المشاهد، وهما فعلان يصوران الحركة المصاحبة للحدث بدقة، ويتمثّل الخيال صورة الجموع وهم يستقون، وصورة البنتين «تذودان» عن بعد ويحذف من المشهد صورة القطيع، حتى لا يتشتت الذهن


(١٣) الكشاف: ٤/ ١٥٠.

<<  <   >  >>