للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحياة، كما أنها تفتح الآفاق الممتدة، أمام التفكير أو التصوّر الإنساني، ليسرح في عالم الغيب المجهول بما فيه من إيحاء، ومفاجأة، فيظلّ الإنسان مشدودا إلى اليوم الآخر، في ضبط أفعاله وأقواله ومشاعره، وفق منهج الله المرسوم.

وتتناسق عناصر الصورة، وتتكامل في رسم هذا النموذج، فيعتمد التصوير أولا على الشعور الممتد للتقوى، الذي ينمو في داخل النفوس، ويكبر حتى تنبثق منه أعمال وأفعال ظاهرة، وبذلك تتوحّد المشاعر والأفعال، وتتلاحم في نسيج محكم في تصوير النموذج لتحقيق الغرض الديني.

فالتقوى شعور داخلي، يقوّيه الإيمان بالغيب، وينمّيه في داخل النفس، ثم العبادة تقوّيه أيضا وتزيد من الإيمان بالغيب، فإذا تمّ ذلك، فإن هذا الشعور الكامن، يجسّد في صورة الإنفاق المادية، التي هي دليل على شعور التقوى الداخلي، والدليل الملموس، على الشعور المستور، ثم يمتد الشعور بالتقوى ليتجاوز الذات، إلى الشعور بالأخوة الإنسانية، والأخوة الإيمانية ممثّلة في الإيمان بالرسل جميعا، ويكتمل هذا الشعور الداخلي باليقين في الآخرة.

ويسهم التشكيل اللغوي في رسم أبعاد هذا النموذج، فاسم الموصول هنا يعرّف بصلته الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، ولكنّ الانتقال هنا من الاسم الموصول إلى صلته، هو انتقال من المجهول إلى المجهول أيضا.

وبذلك يتناسب البناء اللغوي مع الأثر المعنوي الذي تسعى إليه الصورة هنا. ثم تختم صورة النموذج، بالتمكّن والثبات على هذه الصفات أو هدى الله أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وتكرار المسند إليه هنا، يزيد من وضوح معالم النموذج، ويحقّق الغرض الديني من تصويره. ويلاحظ هنا أن القرآن الكريم يكتفي بتحديد الملامح الأساسية للنموذج، حتى تكون الأساس في التفريق بينه وبين النماذج الأخرى من أول سورة في القرآن، ثم تمتد ملامح هذا النموذج في القرآن كلّه، مفصّلة على نحو أكثر في بقية سور القرآن، وكأنّ الملامح هنا إجمال، يتبعه تفصيل بعد ذلك، وهذا يدلّ على وحدة التصوير الفني في القرآن الذي يقوم على نظام العلاقات بين الصور، ممتدة في الأنساق التعبيرية في النص كله، ولكنها تتجمّع بعد هذا التفريع، وتلتقي خيوطها من جديد، في هذه الملامح الأساسية المحدّدة للنموذج.

<<  <   >  >>