للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذه الصفات النادرة، يناسبها الجزاء المذخور عند الله سبحانه، ولكنّ الجزاء هنا يرمز إليه بقوله: مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ فهو جزاء تقرّ به العيون وتسرّ، ولكنه محجوب في التعبير والتصوير، لكي يتناسق مع جوّ عبادتهم في الليل، حيث لا يطلع عليهم أحد إلا الله، وكأنّ هذه الصلاة المستورة في جنح الظلام، يناسبها جزاء خاص مستور أيضا.

وتصوير نماذج المؤمنين، لا يعني تجاهل الطبيعة البشرية فيهم، بما فيها من قوة وضعف، ولكن تصوير النموذج لا يركّز على لحظات الضعف البشري، ليقرّها، ويزيّنها، وإنما يعرضها في السياق ليعالجها، ويوجّه الإنسان إلي مجاوزتها، يقول تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ آل عمران: ١٣٣ - ١٣٦.

ويبدأ رسم هذا النموذج بحركة حسية، تدعو إلى السرعة طلبا للمغفرة، ووصولا إلى الجنة الواسعة، بشرط تحقيق التقوى. ثم يبدأ القرآن برسم صفات المتقين، ويتمثّل ذلك في الإنفاق، في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، والتوبة والاستغفار، وعدم الإصرار على الذنب.

وهذه الصفات للنموذج، قسم منها يرجع إلى علاقته بالناس، وقسم آخر يرجع إلى علاقته مع ربه وهذا يعني تلاحم صلة النموذج بربه وبالناس أيضا.

فصورته ممتدة في علاقته بربه، وعلاقته مع مجتمعه، فهو لا يقتصر على جانب دون الآخر، بل هو متواصل مع مجتمعه في الإنفاق وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، كما هو متواصل مع ربه في الاستغفار والتوبة هكذا يصوّر القرآن نموذج المؤمن، وهو يربّيه ويهذّبه، ويحرّك مشاعره للصعود والارتقاء، فاتحا أمامه باب الرجاء، ثم يأتي الجزاء في نهاية التصوير للنموذج متناسقا مع بداية تصويره له، وكأنّ الجنة الواسعة بمنزلة الإطار الخارجي، والنموذج هذا في داخل هذا الإطار المرسوم والمحدّد.

وهناك نماذج كثيرة خيّرة، وطيّبة، يرسمها القرآن الكريم، ويحدّد سماتها ومعالمها،

<<  <   >  >>