للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ما كانُوا يَعْمَلُونَ يونس: ١٢.

فهذا نموذج للجنس البشري، نراه مكررا في كل زمان ومكان، فهو لا يلجأ إلى ربه إلا في الشدة، فحين يصاب بابتلاء، يتضرع إلى الله على صور مختلفة، قائما أو قاعدا أو مستلقيا، لا ينساه، يطلب منه دفع الضرّ عنه، فإذا استجاب له، فأزال عنه ضرّه، تغيّر موقفه من ربه، وعاد إلى غفلته وجحوده، ومضى في دنياه مستهترا عابثا، ناسيا ما مرّ به من كرب شديد.

وتصوير النموذج، يتناسق مع الحالة النفسية له، فهو يطيل التصوير لحالته وقت الشدة، ويعرضه على أشكال مختلفة، وهو يدعو ربه، لبيان خوفه من أن تكون حياته قد انتهت، فهو لذلك يلحّ بالدعاء باستمرار، كما أن إطالة التصوير هنا، ترسم الفوارق له في الحالتين فهو متضرع خائف في الشدة، ومستهتر عابث في الرخاء، لذلك نلاحظ التصوير السريع الخاطف لحالته في الرخاء يوحي به اللفظ «مرّ» وكأنّه كان مقيّدا، ثم انفلت من قيده فراح مسرعا كما أن اللفظ «مرّ» يوحي بعدم الاكتراث بما ألمّ به من ضرّ، ونكرانه للجميل.

ونموذج آخر للإنسان، يلتقي مع النموذج الأول في تذكره الله في الشدة، ونسيانه في الرخاء، لكنّ هذا النموذج يزيد على ذلك، أيضا، سمة الادّعاء والتبجّح، يقول تعالى: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ الزمر: ٤٩.

فالنموذج هنا لا يكتفي بنسيان ربه الذي كشف عنه ضرّه، وإنما يزداد ادّعاء وتبجحا في الرخاء، فينسب ما حصل عليه من النعمة إلى نفسه، فيقابل ربّه المنعم عليه بالجحود والتبجّح.

ونموذج آخر من البشر، يلجأ أيضا إلى ربه وقت الشدة، ولكنه حين يكشف ضرّه، يعود إلى عبادة الشركاء. يقول تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ الزمر: ٨.

وهذه صورة حقيقية للنفس البشرية، تشعر بضعفها في وقت الشدة، ولكنّها تشعر بالقوة في الرخاء. وصورة هذا النموذج المتناقض مع أهواء النفس يتقلّب بتقلباتها، ويطمس فطرته التي استيقظت في الشدة، صورة تدلّ على الجحود والالتواء واضطراب النفس،

<<  <   >  >>