للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهناك مناظرة أخرى لإبراهيم مع عبدة الكواكب والنجوم، فاستدل إبراهيم على وجود الله من خلال الصور الكونية، واستدل من حدوثها على بطلان عبادتها، لأنها حادثة، وكل حادث بحاجة إلى محدث ينتهي إليه، وإلّا أدى الدور المتسلسل في القول بالمحدث التالي إلى ما لا نهاية، وهذا ممتنع عقلا.

يقول تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الأنعام: ٧٥ - ٧٩.

فإبراهيم يسوق الأدلة العقلية بحيث يوافق الخصم فيما يرى ويجاريه في المبدأ، حتى يظهر له بطلان اعتقاده من خلال إبراز الأفول والزوال للصور الحسية المحدثة، وكونها لا تصلح أن تكون آلهة لهذه العلة وهي الحدوث والأفول، ثم يتوصل مع الخصم في النهاية إلى المخالفة في الاعتقاد بالنجوم والتوصّل إلى حقيقة الألوهية.

وإبراهيم لم يكن شاكّا، وإنما أراد إقامة الحجة وإقناع الخصم، فسلك منهج مجاراة الخصم فيما يعتقد لإقامة الدليل القاطع عليه، من خلال الموافقة في العبارة على طريق الإلزام للخصم وهذه طريقة بليغة في المناظرة، قوية الحجة والبرهان. فإبراهيم كان في مقام المناظرة مع قومه، كما قال بذلك ابن كثير والرازي والقرطبي والزمخشري وأبو السعود «٧».

كذلك نلاحظ أنّ الصورة تعتمد على (دليل التمانع) في إثبات عقيدة التوحيد، عن طريق الاستدلال بنظام الكون المحكم، وعدم اختلاله أو تصادمه، وقد يسمى هذا الدليل (بقياس الخلف) «٨»، وهو إثبات المطلوب بإثبات نقيضه «٩».

ومن ذلك قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا الأنبياء: ٢٢.


(٧) صفوة التفاسير: ١/ ٤٠٢ الهامش.
(٨) مصادر المعرفة: ص ٢١٠ - ٢١١.
(٩) مناهج الجدل في القرآن: ص ٧١.

<<  <   >  >>