ثم نظر في ضم ما يحتاج إليه المُحْتَجِر ويقتاتُه المنحَصِر، ويفتقر المستكن، فاكتسح الأدم والأدهان والكوامخ، والشحوم معلياً لأثمانها ومرضياً بايعُها، واستكثر من الوقود فأغرى الظهر بثقل أجرام الزياتين حتى رأى الحصول على كفايته. ولقبل ما كان السلطان المغرور لم يأل اجتهاداً في ضم الأقوات فكانت مخازن الحبَّتين فاهقة وأهراؤها جاشية وأبوابها على الوسع مختومة، واستوعب الفعلة والصناع من البنائين والنجارين ومن ينسب إلى مهنة الحديد وفتل الجُدل وإصلاح السلاح إلى مهرة المهندسين، وقادحي شُعَل الأنفاط، ونافضي ذوائب المجانيق، ونقَّر عن القسي بالبلد مُغرياً بها العيون فانتزعها من حيث كانت، ولفَّ ضُروب السلاح من دكاكينه المتعارفة، وبنى المراقب والمراصد ورفع الظلال واتخذ أبراج الخُشُب والبناء ومظاهر الحرس ومناظر حذاق الرماةِ، وضم المال على ضروبه من الأوقاف والأمانات، واستدعى الرماة من الرَّجْل أولي الفرنجيات، وسواهم من فُره الدَّربين على العقارة واللولبية، والحضَر أولي الاتصاف بهذه المزية، واستلحق من يجيد الرمي فيها بالعربية، واستظهر من الرجال الأندلسيين أولي العصي والوَفْرات والوصفان المساعير والصقور والحراب بأمم يعيى عدُّها ويعجز حصرها. وأخذ مواثيق من لديه من النصارى بعد أن أكثر عُرفاءهم، وخصَّ بالإحسان فقهاءهم مقتضياً إياها في بيعة نُسكهم حسبما يستدعيه ترجمانُه ويُهذبه قسيسهم ثم تخللهم بأصنافٍ مباينين لهم في اللسان والنحلة. ولم يدع معروفاً بصناعة، ولا حامل يراعة، ولا مُصَرِّفَ آلة، ولا متقدم قوم ولا صاحب مهنة، ولا كاتب طومار أو رسالةٍ إلا حصَّله خلف سوره، إجحافاً بمُطالبه، وإخلالاً بأبَّهته، وهيضاً ظنه لجناحه. فغص البلد وضخم الملك، وتواترت الأخبار بإقبال الأمير عبد الحليم بن عمر، وقربت مراحله، وقد نَهَد من تلمسان سائراً بسيْر ضعيفه، وقد اشتمل رواقه على الجملة من الخدام بين نازع إليه ومستخلص شفاعته. واجتمع الملأ من قبيل بني مرين المعتادين في أمثالها بذل العطاء والاستظهار بهم على الحماية والذب، وقد رابهم أخذه في شأنه وازوراره بجانبه، وعدم إشراكهم في أمره، وطلبوه بالإصحار إليهم ليفاوضوه في المهمة. ونمي إليه ما أوحشه فاستأثر بمتبوأ منعته واستدعى المشيخة إليه فقارضوه النِقبة، وترددت الرسل بما أثار أنفهم واستعلاءهم ونفروا عنه بواحدة مذيعين الرغبة عنه متبرئين عن سلطانه ما دام متولي أمره. وعسكروا بالهضبة تجاه المدينة، وكانوا أملك بالبلد القديم منه، فسدوا ما يواجهه من أبوابه، وطيروا رسلهم إلى القادم يسوغونه المنحة، ويهنونه العطية، ويعطونه الصفقة، وكان وصوله إلى المدينة واضطرابه بظاهرها في السادس من شهر محرم وهو يوم السبت، في نصبة لم يُعِنْها اختيار زعموا مُحجماً عن المنزل المعتاد لِمَا كان من التقدم بهدم جُدرٍ كانت تمنع عمل فَكَّيْ آلة النفط، فنزل قِبليَّ البلد بالموضع المعروف بإِفركان بين ملتف ما به من شجر، وبرز إليه أهل البلد القديم على طبقاتهم من الشرفاء والفقهاء والخطباء والأمناء وسائر اللفيف، فقرر الرتب وقدم الحكام وعيَّن الجباة، واستكتب من أفلت من وَهَق الحصر، وتخطته أيدي القسر وقلد خُطة العلامة الفقيه الحسن الرواء، العظيم المران على الأغراض السلطانية، العذب الحديث والفكاهة، أبا سعيد بن رُشَيْد، وخُطة الأشغال الحيسوبي العريق البيت في الاصطناع وتطويق الوجاهة يوسف الكناني.