وفي يوم السبت التالي لسبت النزول، كانت المناجزة بين طائفة الاحتجاز والأفحاص بعد مواقفات خف بها عند المنحصرة وزانُ القوم ممن سواهم، فخرجوا على تعبئة محكمة قد أسبغوا الدروع وأكثفوا العدد ونشروا الرايات والبنود، وهولوا بالطبول، والبوقات والدبادب والغيطات واستغلظوا بالصراخ والعجيج والجلبات، تقدمت الجمع كراديس الغز الرماة الناشبة بين أيديهم قوم من مشاهير الميدان وذوي الثقافة. وركب الجيش بظاهر البلد. وانتظمت التعبئة المرينية على السلطان عبد الحليم من الشيوخ الرجح، والفرسان أحلاس الصهوات الذين لا تفضلهم أمة من الأمم في إجادة الركض، ومثاقفة ميدان السلم، وغريب الكر والفر والانعطاف مع اللَّي. فكانت المدافعة عند الأخدود الذي أعمقوه بين المحلة والبلدة على غَلْوة من باب المدينة. واقتحمه سَرَعان الخيل من درج مغفل طاردت مَنْ وراءه بخلال ما تلاحقت الفعلة واجتهدت في العمل والتسوية، وجازت المقاتلة يتخللها رِجْل الدبَّا كثرةً من الرماة الرَّجْل وأولي العِصِي منهم، فتستروا بجدرات الجبانة وأطلال البناء، لا يمر بهم مار إلا أثبتوه، فانشمر الناس، ولاذ بهم الفرسان، فوقفوا وصبروا تسري إليهم من سحاب النَّبْل عوارض الغَيْم، وقطرات المطر السجم بحيث تحتجب عين الشمس. وأبلى المرينيون أحسن البلاء ثم أعذروا، ثم خرج السلطان يقفو التعبئة في جملة حسنة، فحميت الناشبة ونقلوا الخطا وتحرك جمع الروم يمشي الهوينا، ثم سال منهم الآتِيْ، ودكَّت بسنابك بَراذِينِهِم الأرض فتولى القوم رغماً وثنوا الأعنة على حال استجماع، فانهار قوم على العَقَبة الكؤود المفضى مسلكها الوَعْر إلى باب الجيسة. وانصرف معظم القوم ملتفين على السلطان شرقي البلد في مساوقة المصارة إلى الزاوية الحديثة، فعبروا النهر إلى هضب الرمكة، ووقفوا ملياً ثم استبصروا في الانصراف، وأقصر الجند عن الأتباع، ووقع القنوع بما تهيأ من الأمر، وعاثت الأيدي في المحلة، فوقع بها النهب، واستأصلها العياث، فعادت المضارب مزقاً، وتقسمت الآلات انتهاباً، واكتسح كثير من الظهر، وتُحدث بحسن ثبات السلطان المنهزم، واتفق القول على شجاعة أخيه عبد المؤمن ومضائه، واعترف الناس بجميل مواساته، والفضل ما شهدت به الأعداء. وتعرف بعد أن القوم قصدوا رباط تيزي اتخذها سلطانهم مُستنداً منها إلى المنعة، ومستظهراً بأهل وطنها من قبيل بني عسكر وبني ورتاجين، وشرعوا في لَمِّ الشَّعْث ورأب الثأي، فتوجه منهم إلى بني زيان وإلى العرب الأحلاف وجبال الريف، خدام مستصرخون مستنصرون يطلبون المدد ويجلبون الرجل ويستدعون الحَمِيَّة. وتفرق آخرون شَذَر مَذَر وذهب الشيخ يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطى، قطب هذه الدوائر ومحاول هذه اللعب إلى جهة مراكش متضمناً إفساد من بها وصرف دعوتهم إلى سلطانه. وهذا الشيخ عريض المال دَثرُه، وافرُ الصامت جمه، كثير الذخيرة زعموا متملكٌ للعقار، محوط النعمة بسياج الإمساك، جامد الكف كميش البنان، قفر الخوان، أكله بلاغ وشرابه نغبة، محجورٌ لِحُجُوله المقيَّضة لنمو وفره، ولا يفتر مع الحَظْوة وقرب السواد من مضجع الملك ومبدأ السياسة من الإنكار للأحوال والسعي في الإدالة، والغمز على سقطات الدولة وإغراء أضدادها، في سبيل المشاره وفتح أبواب الغِيَر عليها، في سَنَن غريب من النبل مصرف في موضوع الشمات، وشره الإعاضة، وتَسَخُّط الأحوال، جر عليه ذلك كثيراً عند وجود الملوك أولي الحلوم والحزامة، إطالة الثقاف وجرَّ الأداهم، ومساكنة صُرعاء الغير. ولله درُّ الحكيم إذ يقول) المرء أسير مولده (، كبحنا الله عن الركض في هذه الميادين بلُجُم العبرة، وأرانا وَكْسَ هذه الحظوظ بعين البصيرة. وهو مع ما رُمي به وزُنَّ من هذه الخلال حسن المجالسة، مختصر البأو، معتدل الوقار، ظاهر النبل فطن المعاذير، كثير الحبكة وربما غُرزت في أديم ماله إبرة الصدقة.
ومن ذا الذي تُرضي سجاياه كلها ... كفى المرء فضلاً أن تُعدَّ معايبه