وصلينا بمسجدها الجامع وهو مبنى عتيق، ومجمع فسيح متعدد الزيارات والصحون والتعاريج، سبق منه ما بين يَدَي المحراب بعضٌ على أيدي قوم من الصالحين، رفعوا به عَمَداً تناهز الأربعين، بادية ضخمة خشنة على سبيل من الجفاء والسذاجة يباشرها سقف لاطئ من غير نقش ولا إحكام عَلَتْها خُشُبٌ بالية، وقُضُبٌ ناخرة، بما يدل على قِدَمِ العهد، وينبئ على اجتناب فضول العمل. فلم تمتد إلى تغييرها يد، ودارت بها الزيادة النبيهة والبُلاطات من جهاته. وبصحن هذا المسجد جِبَابٌ للماء ينتابها الناس لسقيهم ووضوئهم فَيَحسِبُهُم. ويقابل القبلة من جوفي الصحن زاوية بها فقراء يدعون ذكراً لله، فَيُعاطَوْن مقام التوكل، فلا يُغبُّ عنهم التفقد.
وبهذه البلدة، المدرسة والمارستان، وعليها مسحةٌ من قبول الله. وهواؤها أطيب أهوية البلدان، يستدعى الدثار في القيظ لبرده ولطيف مسراه. وتردد بها إليّ صاحب السوق ومقيم رسم المارستان، الشيخ الحاج أبو الضياء منير بن أحمد بن محمد ابن منير الهاشمي الجزيري، من أهل الظَّرف والخيريَّة والتمسك بأذيال أهداب الطَّلب. حَسَنُ الخطّ جميل العشرة، خفيفٌ في سبيل المشاركة. نشأ بالخضراء، وحضر حصارها، وحج وخدم الصاحب بدمشق فأحظاه. أنشدني من شعره يخاطب السلطان عند قدومه من الحج قوله:
قدموا عليك عَقِبَ حَطِّ حُمُولِ ... زِوارُ خيرٍ منبئٍ ورسول
شُّعْثاً على حُبِّ التحية ترتمي ... بهُم لبابك في ذُرًى وسهول
ليكون خاتمةَ الكمال ومِسْكَهُ ... تقبيلُ كَفِّكَ في بساط قَبول
من قصيدة جارية على هذا الأسلوب. مولده بالخضراء عام خمسة وسبعمائة.
وكان الرحيل يوم السبت الخامس والعشرين من الشهر المذكور إلى منزل ينسب لأبي خَدُّو فيه رجل من بني المنسوب إليه اسم يعقوب، طِرْفٌ في الجود زعموا جرَّ بذلك المرزأة إلى عتاده. فألطف وأجزل ورتب الحرسة وآنس في الليل وطلبني بتذكرة تُثْبِتُ عندي معرفته في الآتي، فكتبت له:
نزلنا على يعقوب نجل أبي خَدُّو ... فعرفنا الفضل الذي ما له حدُّ
وقابلنا بالبشر واحتفل القِرَى ... فلم يبق لحم لم نَتَلْهُ ولا زُبْدُ
يحق علينا أن نقوم بحقه ... ويلقاه منّضا البِرُّ والشكر والحمد
قيل لبشار بن برد، بينما أنت تقول:
إذا ما غضبنا غضبةً مضريةً ... هتكنا حجاب الشمس أو قَطَرَتْ دماً
ثم تقول:
ربَابة ربةُ البيت ... تصب الخلَّ في الزيت
لها سبعُ دجاجات ... وديك حسنُ الصوت
فقال، قلت ذلك أخاطب امرأة من البادية في خيمة قرتني بدجاجة وبيض كانت لديها أحسن من: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
ثم سافرنا منه إلى سور موسى من مجامع دُكاَّلَة، وهو حَلْقٌ ذو شرفات وأبراج، بادي الانثلام والتشعيث غير حرز الغلق لجهل هذه الأمة المُصْحِرة بالتحصين، وهو بعض ما يلجأ إليه أهل هذا الوطن المتكاثف العمارة، الجمِّ الماشية، المُنْبَثِّ الحِلَل، الغاصِّ على انفساح مداه بالراغية والثاغية والصاهلة والناهقة، البالغ عدد أزواجه لإثارة الأرض ومعالجة الحرث، ثلاثة آلاف زوج من أزواج الثيران تثير أرضه وتعالج حرثه، يُتَحَرَّم به عند الغارة الشعواء المُصْمَئِلَّة يطرقهم بها عدوُّهم من بني الحارث وأحلافهم من سكان السهل والجبل فَيَسُدُّ عندها. وعلى ذلك فهم لحم على وَضَم ولقمة بين لَحْيَيْنِ، ويخارجه سوق جامعة يُحْشَر إليها الناس ضحى، ويتقاطرون من كل مَرْمىً يَمْثُلون في صعيد واحد، قد خيمت تجارتهم وظلوا، ولا ينفضُّ الجمع إلا مع انقضاء بياض يوم.