وقد كان رُفع إلى السلطان المُغْرّى بالبناء وتخليد الآثار أبي عنان رحمه الله، خَبَرُ ما عليه الناس من إخافة عدوهم، واهتضام عَرْصَتِهم واستهداف عَقْوَتِهم، فأمر بارتياد مَحَلٍّ لتأسيس مدينة، فاختير على غَلواتٍ منهم، محلٌ أرضه صخر منطبق على تراب، يتأتى فيه اتخاذ الخندق غير مثلوم الشفا، بعيد المَهْوَى، يبني السور بما يخرج منه من الثرى ويصون الأطباق المعدة للاختزان عن أضرار السماء، ويكون سطح الأرض على خمس قامات من منبع الماء. فشُرع في البناء واستُبعد الفضاء، وَمَثلَتْ الأبواب العديدة، والأبراج المشيدة. وعاق عن إتمامها هجوم حِمامِه وانصرام أيامه، فرغب أهله في التنبيه على تكميل نقيصته واحتياز حسنته.
وتلقانا مشرف المَحْبَى بها الشيخ الفقير الخير أبو عبد الله اللَّجَائي، قريع الأمانة والفضل، العف اليد، الحَصُور عن مساس الجباية، المتَّصلِ الاستعمال باستصحاب الحال الرقيقة، وسقوط التهمة من أهل الطلب والسذاجة وحسن العهد وكرم العِشْرة، الجواد على كونه مَنِيناً عدم العتاد في حال الكِبْرة. تلقانا في جملة من أتباعِ الخِدْمة، ثم تلاهم مركب القاضي والعدول، وقاضيها الحاج أبو عبد الله محمد ابن سعيد بن عثمان بن سعيد الصنهاجي الزَّمُّوري، رجل مختصر البنية والثوب قد طرقه الوَخْطُ على حداثة، يحفظ غُثاءً من منقول كتب التفسير وغيرها، ذاكرٌ لمسائل متعددة، مسترسل اللسان في أسلوب يفضحه الإعراب عادةً لا جهلاً بقانون النحو. شموسٌ عند المذاكرة في المسائل العلمية، أطرفَ بحديث رحلته. ولما نزلنا خَنَس فلم نسمع له ذكراً إلى أن شيَّعنا من الغد، فَسَعَّطْتُهُ بخردل العَتْب ديدني في مقصِّري هذا الصِّنق القَمنْ بفعل الأغنياء في البر المستحق لولا رؤية الفضل لنفسه بمزية الفضل، فَزَلَّة العالم معروفة بعدم الإقالة، فاستعتب واعترف، وسألته الإجازة فيما يحمله، واكتتاب شيء من منظومة الكثير، وقد سَمَّى موضوعات ذكرها من تأليفه فوعد بذلك مُطَيِّراً به إلى محل المبيت ليلتئذ. وتلاحق بي رسوله بنزرٍ يتضمن ذكر أشياخ أكثرهم غير مسمَّى، وجلب شيئاً من حاله حتى عن القابلة التي التقطته ورؤيتها إياه على هيئة عن المُكَلَّف المخاطَب بوظائف الشريعة من سجود ورفع يد إلى السماء، إلى أمثال هذا. فخاطبته وأعدت الرسول إليه بقولي:
أليس قليلٌ نظرةً إن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل
وصَلَتْ أيُّها الفاضل رُقْعَتُك التي تضمنت الفوائد، وَصِلَتُك التي استصحبت العائد، وشاهد فضلك الذي بين تصريفه الأصلي والزايد، متفننة في ضروب لا تجنح شمسها لغروب، هزت ألحانها مني عِطْفَىْ طَروب، واستقر قِراها بين يدي أكول لمثلها وشروب. فلله ما تضمنت من فوائد رحلة حجازية لَبِسَتْ من حسن الحِجَى زِيَّه، وذِكر أعلام وأركان استلام إلا أنها كانت كَلَيْلَةِ الوصل ما عابها إلا القِصَر، فَلَوَدِدْتُ أن لو أمدها بسواده مني القلبُ أو البصر. بَخَسَ وزنها الاختصار لا بل الاقتصار، وافتقرت إلى شرحٍ يقع به على مُتَعَاصِي معانيها الانتصار، ووعد المجلس القاضوي باكتتاب شيء من منظومه بعد اعترافه بأنه كثير ومهاد وثير فما كان إلا الوعد، والأخلافُ من بعد:
يا لُوَاةَ الدَّيْن عن مَيْسَرَةٍ ... والضنينات وما كنَّ لئاما
والظن بسيدي أنه دعا عند شربه من بئر الحَرَم، بأن تُرفَع عنه مؤنة الكرم، فأُجِيبَتْ الدعوة كما ورد، واستقام العمل واطرد، فكان اللقاء على مسافة قصيرة، وملاحظة البر بمُقْلةٍ غير بصيرة، والزيارة مُزْوَرَّة، وأظنه لاحظ بيت شاعر المعرة:
لو اختصرتم من الإحسان زُرْتُكُم ... والعذب يُهجر للإفراط في الخَصَرِ