للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فكان صنْع الله لها ولا القوم غطاء ستراً يفصح له الحمد دائباً والشكر واصباً. ولما خيموا بسلا وأطلوا على الأحواز المكناسية تهيئوا الولوجَ على أَجَمَتِها وقلقوا لامتساك أميرها وثبات فئته بها، ففتقوا بالمراسلة صِفَاق الوحشة وخطبوا من القبائل بها الإرعاءَ على البقية. وبرز الرئيس عامر بن محمد وهو الموثوق به في رجال المغرب كافة يتضمن لهم تَقَبُّل الفيئة ومراجعة الحسنى وتهذيب ما عرَّضوا به من إخلاء دَسْت الملك من الوزير مخيفهم والاستعاضة منه بمسعود بن رحو ضده، لما يرجون من ارتكابه فيهم خلاف غرضه مُحادّة له وانحرافاً عنه، وليروا مواقع منَّتهم في عنقه بتسبيبهم رجعاه وتحسينهم عقباه، فتكون أيدي دالَّتهم عالية وأصوات تعززْهم عليه غير خافتة، وأن يهادن أميرهم الذي خلص إليه هويهم في إرث أبيه بوطن سجلماسة وما إليها، فانحط عامر بن محمد في غرضهم وتحمل كلَّه وضمن عرضه ونفض اليد من الممالآت عليهم إن ترفَّع السلطان عنه، حافظاً بذلك سيقته وباذراً فيهم يده ومتوفراً عن حربهم جهده، ومعملاً في السلامة من معرة عدوانهم دهيته، ومدنياً من أمير متوفر الخلال جواره.

ولم يكد رسوله يتوسط طريق طيته، حتى تواترت مخاطبات السلطان مستحثَّة ترهقها سنابك بروزه إلى كبس من بمكناسة، فلم يسع التلوُّم خيفةً من ظهورٍ يتأتى له ولا يحضرون مَدْعاه ولا يأخذون بمقتضى من حمده، فارتحلوا يوم الجمعة ثاني شهر ربيع الأول إلى خميس فزارة. ولقيهم بريد الفتح وقد سالت الأباطح والرُّبا بخيل العرب مغيرة على ما واجهه من الأحواز، فاستأصلت ما شاء الله من الأمم المحروبة فلم تدع لهم غطاء ولا وطاء ولا خفّاً ولا ظلفاً، وبيعت يومئذٍ المرأة غير مستكشفة عن سنخ ولا مسؤولة عن حرية أو رق بثلاثة دنانير فما دونها، واستبيحت الفروج واستحلت الأموال. صاننا الله من المحن وحجبنا عن غوائل الفتن. فتُعرِّفَ ما كان من خروج الجيش المستعرض بدار الملك عن آخره، إلى من استنفر من مطَّوِّعَة الرِّجْل، لنظر وزير الدولة وماخض زق هذا الهوْل عمر بن عبد الله ضنانة بأميره وكفاية له وانتداباً إلى القيام بمهمِّه، غرة الشهر، وفي موكبه عُدَّة السلطان وأبهته من الطبول والبنود والرجال الرقاصة وتخييمه بوادي النجاة. وأنهم لما ارتحلوا صبيحة يوم الجمعة لحق بهم من عرفهم ببروز من بمكناسة لنظر أخي السلطان وابن أخيه في جيش من أولي البصائر من قبيلهم الماثلة دورهم بتلك الأحواز فيمن لف لفهم من أذيالهم واجتمع من القوم عسكر وافر هون عليهم الإقدام على جيش الحضرة مع الاستلحاق والعطاء.

فلما تراءى الجمعان، أمر من في جيش السلطان من القبيل المريني بالمناوشة والاختصاص بباكورة اللقاء ثم أردفوا بالناشبة ورماة القسي العربية، فرجفت راياتهم على شأن غز المشارقة من المزمار والطبل وحمل جمة الشعر في أرينة سنان الراية.

ولم يكن إلا أن شارفهم القوم من قبيلهم وهب المكناسيون في وجوههم فانهزموا ضربة، وسالوا عن يمين القلب ويساره، وشالت نعامهم، وكادوا يجرّون الهزيمة على سائرهم، ديدنهم الذي صارفوه أمراءهم وناجزوه حروبهم من لدن ذَهَب أولوهم أولو الريح الهابة والدول الشابة.

ولما رأى الوزير قائد الجيش حلول الدَّبْرة وشافه موقف الفَضْح استجمع وأمر من لديه من فرسان الروم بالصدمة، فصَدَقوها عَدُوَّه، فكانت واحدة ركب بها أكتاف القوم فلم يثنوا عناناً ولا أفاقوا فواقاً، واستولت الأيدي على كراع كثير وأسباب، واستلحم السيف جمعاً يناهز المائة، وأسر من الماثلين بمصطف الوزارة شعيب بن وخديج، واستأمن إلى عامر بن محمد بطريق لحاقه طلحة التاورتي وهو أجلد القوم. وتحصل بيد العفة سبعة من هوادج نسائهم اللائي بادروهن بالنكاح في مصطلى فراسخ، وقد أفاق القوم وركبوا ثنية ينظرون منها إلى نشاط عدوهم واجتماع فلَه.

وجعل الجيش وجهه إلى مكناسة فنزل بظاهرها وبرز أهلها إلى وزيره خاشعين من الذل ينظرون من طرفٍ خفي تدمَى كلومُهم، فقرروا مهولاً من غلبتهم على الطاعة، وشرحوا عُظْماً مما رُموا به من سوء المُلكة، ووعدوا من أنفسهم بالاستماتة من دون حوزتهم مع فرض العودة.

<<  <   >  >>