وبادر الوزير بالرَّجْل إلى باب البلد، فجلَّى له المتسورون من أوليائه الخفيّ فسكن إليه، ولم يكن ثمَّ من يمانعه عن معالجة الباب، واستثار حفائظ الرّجْل بين يديه وأطمعهم في الأموال، فدخل البلد وسكَّن الهرج، وقتل ذيالك الخبيث، وأمر بإحراق شلَوه، من داعر متسام للعظمة مستام بالفَلْس الزائف، ناقد للدولة، عظيم الجرأة، فاتح باب الطمع في الأمر للسُّوَق والسِّفلة كما شاء ربُّ العزة، واقتضت السياسة إرغام مَعْطس التتبع للجناة وحلفاء الريبة والمقتحمين غمرة هذا الهول، لفشُوِّ الفساد في الطبقات وما يؤدي إليه استتباعه من إيحاش البريء وفرار المريب وتمعُّط رياش الدولة، فزرَّت الأطواق منه على سِلّ وليِكَ صَبرُه لَوْكَ ضرورة وصُيِّرت به الكتب إلى المحلة المراكشية وسائر البلاد سُبوقاً لخبر السر ورفعاً للشبهة، ولو أعيت الحيلة إلى إمتاع النهار وانتشار الأمر، لم يكن لخرْقِه من رَمْد ولا لصدعه من شاعب. ولازم السلطان من يومئذٍ سُدَّة المُلْك ودخل المدينة باختيار من يخلق ما يشاء ويختار، وكثر استدعاؤه للجيش المراكشي، وقد كان القوم خيموا بظاهر رباط الفتح، أثر منصور آل عبد المؤمن، في أوشاب من العرب والجيش المستخدم بتلك الناحية، تدب بينهم عقارب المحاسدة وتَحْزَئِلُّ حيات النفاق، وتتجاذب عزماتهم أيدي الاختلال. أما عميدهم فأسهل عن جبله لغير ضرورة وفي غير كثف من الحامية وعن غير روية إلا الوفاق والمساعدة والحرمة وأخذ العفو والانقياد في زمام الألفة وهيْعة النهور والإقدام بقوم فوضى على أمرٍ شَعاع.
وأما شيخ العرب حليفه الغبيط بمكانه فمزاحم بالقبائل المغراة بالنفاس وإشعاب الكلمة. وقد كاشف قبيل الملك من بني مرين، نَبَأ لأوّل وهلة فأغرم ما بوطنه من بلادهم، واستباح حرمتها، وأما المُعين للوزارة في البطن الثالث من مناسختها أو الدور الثالث من تناسخها المموه به لديهم، فموتور بالوزير الدائَل مكبوح برئيس الوطن عن معتاده من علو اليد وفضل الحكم. وفشى تدبيرهم فلا مُلايلة ومياومة تتلقفه من شفاههم الدكاكين وحَلَقُ اللهو فلا يسترجع عنهم مسترجع، وعاء قِرى أو ظرف هدية إلا وَمِلْءَ وعائه ذرءٌ من سرهم لإشراكهم فيه أهلَ البطالة والأحداث إخوان المعاقرة الذين لا تستأثر صدورهم عند عمل الكأس وزهزهة الأزراد وانخراق جو المجانة، إذ قذفت الإخافة منهم بطوائف شردتهم الدولة لمطالبات وإحَن، اقتضت الصاغية إليهم والبر باستضافتهم والظن بغَنَاء لديهم، وإشراكُهم في الأمر واستخلاؤهم للسر وإجالةُ قداح الرأي. ولا كالشيخ طُوَيْس الوقت، الطِّرْفُ في الخلال المذمومة، الاسرائيلي الطلعة، بزاز سوق النميمة، وأستاذ حلقة الخديعة وقطب رحى المكيدة والمثل في الغفلة عن الله والدار الآخرة، الخَبُّ ذو الوجهين، المتنفق بخائنة الأعين خالد بن تاسكورت، الهارب من وطن إفريقية، منتهك البشرة مفلتاً من شد العصاب في مثل هذه السبل. دالت الدولة، وقد أحفظها بسعيه بياض اليوم وسواد الليلة، طوَّافاً لنقل الهنات وتفريق المجتمعات وإثبات عقود الزور، والولائج إلى إبانة النفوس والذمم، فلم تُقله العثرة، وأغرمته خمسة آلاف من العين رَزأ بيت المال إياها في زمن يسير تولى فيه بعض الأعمال من خدمتها بما دل على متانة الأمانة وعفاف الكف، ولحق بمراكش حذراً من تعقيبه أو كسوع إلى مطالبة، فما شئت من تخبيب وبنث سعاية وتسخير في حبل هوى. ولم يغب هذا الفتق على حصافة الرئيس أبي ثابت عامر بن محمد ودربته بمراوضة المهمات ووضع الهِنَاء مواضع النُّقب ولكن اشتبهت الأمورُ فتركها مرسلة، وتكاثرت الظباء فجعلها مهملة، وقد كان الحجاج يقول إذا اشتبهت عليه الأمور:
دعها سماويةً تجري على قَدَرٍ ... لا تفسدَنْها برأيٍ منك مَنْكُوسٍ