سيدي الذي هو فَصْلُ جنسه، ومزيةُ يومه على أمسه، فإن افتخر الدين من أبيه ببدره، افتخر منه بشمسه، رَحَلْت عن المنشأ والقرارة، ومحل الصَّبْوةِ والغَرَارة، فلم تتعلق نفسي بذخيرة، ولا عَهْدِ جيرةٍ خيرة، كتعلقها بتلك الذات التي لطُفَتْ لطافَةَ الرَّاح، واشتملت بالمجد الصُّراح، شفقة أن تصيبها معوةٌ والله يَقِيها، ويحفظها ويُبْقيها، إذ الفضائلُ في الأزمان الرذْلَةِ غوافل، والضدُّ عن ضده منحرفٌ بالطبع ومائل، فلما تعرفتُ خلاصَ سيدي من ذلك الوطن وإلقاءَه وراء الفُرضة بالعَطَن، لم يبق لي تَعِلَّة، ولا أحرضتني له علة، ولا أُوتِيَ جمعي من قلة، فكتبت أهنئ نفسي الثانية بعد هناء نفسي الأولى، وأعترف للزمن باليد الطولى، فالحمد لله الذي جمع الشملَ بعد شتاته، وأحيا الأنس بعد مماته، سبحانه لا مُبَدِّلَ لكلماته، وإياه أسأل أن يجعل العصمةَ حظَّ سيدي ونصيبه، فلا يستطيعُ حادثٌ أن يصيبه وأنا أخرج عن بثِّ كمين، ونُصْحٍ أنا به قَمِين، بعد أن أسْبُرَ غَوْرَه وأَخْبُرَ طَوْرَه وأرصد دوره، فإن كان له في التشريق أمل، وفي ركب الحجاز ناقةٌ وجَمَل، والرأي فيه قد نجحت منه نيةٌ وعمل، فقد غَنِيَ عن عوفٍ والبقرات، بأزكى الثمرات، وأطفأ الجَمَرات، رَمْيُ الجَمَرات، وتأنَّسَ بوصل السُّرى ووِصَال السَّراة، وأَنَا لَهُ إن رضيني أرضى مُرَافق، ولواءٌ عزى به خافق، وإن كان على السكون بقاؤه، وانصرف إلى الإقامة اعتناؤه، فأمرٌ له ما بعده، والله يحفظ من الغِيَرِ سَعْدَه، والحق أن تحذفَ الأبهةُ وتُخْتَصَر، ويُحْفَظَ اللسانُ ويغضَّ البصر، وينخرطَ في الغِمار، ويُخَلَّى عن المضمار، ويجعل من المحظور مداخلةَ من لا خَلاَق له، ممن لا يقبل الله قولَه ولا عَمَلَه، فلا يكتم سراً ولا يتطوَّقُ من الرجولة زِرَّاً، ورفْضُ الصحبة زمامُ السلامة، وترك الملامة على النجاة علامة، وأما حالي فما علمتم مُلازمَ كِنْ، ومَبْهُوظَ تجربة وسن، أُرجِّي الأيام، وأَروم بعد التفرق الالتئام، خالِي اليد، مليء القلب والخلَد، بفضل الواحد الصَّمد، عاملٌ على الرحلة الحجازية التي أختارها لكم ولنفسي، وأَصِلُ في التماس الإعانة عليها يومي بأمسي، أوجب ما قررته لكم ما أنتم أعلم به من ود قررته الأيام والشهور، والخلوصُ المشهو، وما أطلتُ في شيء عند قدومي على هذا الباب الكريم إطالتي فيما يختص بكم من موالاته وبذلُ مجهودِ القول والعمل في مَرْضَاته، وأما ذكركم في هذه الأوضاع فهو مما يُقِرُّ عين المَجَادَة، والوظيفة التي ينافس فيها أولو السيادة، والله يَصِلُ بقاءكم، وييسر لقاءكم، والسلام.
وخاطبت أبا الحسن القرموني من خدام السيادة الخطيبية، ولما وقعت إليه الإشارة حكاية بتونس أيام استيلاء الملك المريني عليها: حملني أعزك الله على قصدك، وتحقيق رصدك، ما حدَّثوا بتونس عن يوم فَصْدك، وأن العاقل ودَّ يومئذٍ أن يكون حجَّاماً، ولا يعرف أسراجاً في ابتغاء الفضائل ولا لجاماً، ومصَّاصاً، ولا يعرف امتازاً بالمعارف ولا اختصاصاً، إلى ليلاتك التي فضحت الظُّلمَ، وأمست لياليَ في سَلَم، وأضحت لشهرتها ناراً فوق علم، إذ باتت العيدان مصطفةً اصطفافَ الهدْي، آخذةً ما بين رأس السرطان إلى رأس الجَدْي، وقلتُ نفسٌ لا تدينُ بالإِمساك ولا تلين لوعظ النساك، لا بد تحت هذه السفرة من نفاضة، وحول هذه الزرة من قراضة، فلما رأيتك رأيت مخيلةَ رجولة، في طلعة مقبولة، وعلمت أن اختصاص سيدنا باستعمالك، وعدم إهمالك، قبول لشهادة مُزكِّيك، وبيانٌ يرفعُ التشكيك، فاستعنتُ بعزك وطعنك وضربك، وقد بلغني جميل بلائك وإن كان ضعيفاً، لكنَّ الله سبحانه وله المثل الأعلى يقبل رغيفاً والشكر واجب، والعمل الصالح لا يحجبه عن الرُّقيِّ حاجب، فخاطبتك شاكراً، وبفضل ما صدر عنك ذاكراً. والسلام.
وقلت أخاطب صاحبه محمد بن نوَّار من الخدَّام وقد أعْرَسَ ببنت مِزْوَارِ الدار السلطانية وهو معروف الوسامة وحسن الصورة:
إن كُنْتُ في العُرْسِ ذا قُصُورٍ ... فَلاَ حُضُورٌ ولا دِخالَهْ