للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ولما استوى ما أمر بإشالته ورفعه من العدة والآنية والفرش والماعون والفساطيط والآلة وأبهة الإمرة وعتاد الخزائن، قصده بحريمه الأسود الماجن سليمان بن ونزار تلقاء العدو، فما أمسى إلا وأروقة الخلافة ترف فوقه وآلاتها تُصَرَّفُ بين يديه، وأرائكها تنضد لجلسته، وظهرها وحمولتها مرتبطة بازاء رستاقه، وقصد ظاهر البلد الجديد فنازله وأحاط به وكاتب الجهات فلم يختلف عليه اثنان، فقدم العمال والقضاة وأجرى العوائد وجدد الصكوك، وأخلى بينه وبين الناس، وأفرط في التنزل والضعة والتمني، وحط الأبهة استئلافاً للنفوس. ووالى حصار البلد المذكور فرتب عليه المقاتلة ونصب المجانيق والعرَّادات، وقاد الستائر والأكبش والدبابات، وأدار عليه البناء من الجهات وسكن بشرقيه في الهضب أَبغران، وأمر الخاصة بالسكنى واستدعى من البلاد البحرية عُدد الأساطيل من التِرْسة والمجانيق والحديد لاتخاذ الآلة والمعاون وأمراس الكتان والشهدانج لحل الأقفال، واستنفد الوضع فلم يحل بطائل. وقد اضطلع محصوره وأفاق من الطخية، ومَرَن على الحصار واعتز بالمال فأجاب داعيه الكثير من ذؤبان الرجل أولي النجدة ومساعير الحرب وأرباب العتا والصبر واقتحمت إليه بالمضغ والأدم راكبو أعناق الأخطار ومرخصو أثمان النفوس بين يدي ما يرومون من الربح، وناهزت الحال شهرين كابد من شجا البلد المحصور خطباً، ولم يتهنأ معه ملكاً واحتاج إلى المال فلم تنجده البلاد التي شحت ينابع أرفادها للهب الفتنة، وأمسكت أكف غارميها دواعي الهرج، وقرب عهد ولاتها بالدفع لما يحصى من الخَرْج، إلا ما كان من أوقاف وأموال صدقات وودائع لا تقع مما يريد في نسبة عددية، وأباح الدسيعة للقبيل، ولم يستأثر عنه بفلذه، وأطلق الأيدي على كل طلبه ولم يسمع عنه لا في مسألة حتى جرى في ذلك غير ما صحكه. ووصل ولده اللاحق بجبل هنتاتة، المستقر في جُوار رئيسها المِدْرَه في الدّهْى والحزَامة، وأحد الآحاد في إقلمة الرسوم الحسنة والإرعاء على الرتبة والتزين بالوقار والسكينة، عامر بن محمد بن علي الهنتاتي حسنة هذه المُدَد المتأخرة، والمغبر في وجوه الوجوه السابقة، مصحباً بزينة الملك وآلات السلطان، مُتَعدِياً طوره، لابساً للناس غير لِبْسة أبيه، من الأنَفِ والتجبر وتعاطي خطة الفراعنة، من غير أن تشج العروق أو يملك البيضة، صبي اسنه علي، أشوس اللحظ، شامخ المارن، رأى لنفسه قصوى المزية، أنكر على الشيخ فضل التَّنزل وعَبَس وبَسَر في الأوجه وتوعد على التقصير فكان أدعى الدواعي إلى هلاكه وهلاك أبيه، ولله أمر هو بالغه سبحانه.

ولما طال على الأمير أبي سالم عَرْضُ نفسه إلى مَنْ حَرَّكه إلى طلب حقه، وسئم التردد واقتضى أجوبة مستدعيه مراجِعَةً بخروج الوقت، ناعيةً إبطاءه، إلى تنوع الحال وإخفاق السعي واجتماع الكلمة على الغير، انصرف بخفي حنين، وقد وصلت أحواز مرساه الحصةُ مانعة إياه من النزول آخذةً على أيدي من أقرضه الصنيعة وأبدى له صفحة القبول. ولما وازى وجهه الصَّفيحة من أحواز أصيلا تبادرته قومٌ من غُمَارَة سكان ذلك الجو وعقبان ذلك الدَّو، فانحدرت إليه ووعدته بالوفاء له، فنزل وربما نالته في الصحصاح شدة تخلص منها بعد الكيْت، واحتملوه فوق أكتادهم ثم اعتاموا له هجيناً من مراكب سَراتهم المستهلين إلى مجامع التباعات، أمطوه صهوته، وأحدقوا به في سفح الأدنى من جبالهم، وأخذتهم الحَمِيَّة فتنافس في الذبّ عنه والقيام بدعوتهم شعوبهم وقبائلهم ثم كبسوا مدينة أصيلا حاضرة بلدهم فتغلبوا عليها وضيقوا خارج مدينة طنجة وتوعدوا أهلها بإفساد أموالهم المُصْحِرة، فدخلوا في أمره، وقد تسامع من بجبل الفتح من قبيل غماره بالأمر فسلكوا سبيل قومهم في الانقياد له فقبضوا على واليهم الوزير البقية، الحسن الرُّوا، العذب الكلمة، علي ابن العباس بن موسى، وقد أغفل الحزم واختلط بسوادهم اختلاط الثقة بهم، فكانوا أملك به. ولم يسع من بسبتة جارهم المصاقبة الامتناع، فوجهوا من مشيختهم من قرر الأمر وضمن الطاعة.

واتفق على تَفِئَةِ ذلك أن وصل سبتة الغراب الموجه إلى الإسكندرية أخريات الأمير أبي عنان، راكب عنقي البحر والبر، مما حدّ له شراؤه من متاع الشرق وطيبه وطرفه، فحط بسبتة، وكانت بضاعته مما جملت العَطَل وموهت الخمول.

<<  <   >  >>