وصرف السلطان وَكْدَه إلى اجتثاث شجرة أبيه وأن لا يَدَع مَنْ يصلح للملك ولا مَنْ يترشح للأمر، فالتقط من الصبية بين مراهق ومحتلم ومستجمع، طائفة تناهز العشرين غلماناً رُوقة من إخوانه وأبناء إخوانه، فأُركبُوا البحر إلى رنده، ومنهم ابن أخيه المسمى بالسعيد، المتصير إليه الأمر بعد أبيه، وأفلت منهم ولدان لحقاً بغرناطة فاستقرا بدار آمنة. ثم تعقب النظر فيهم فأركبهم جفناً غزوياً مُوَرِّياً بتغريبهم إلى المشرق مبعداً إياهم عن حدود أرضه، ثم طير إلى قائد الأسطول وهو أبو القاسم بن أبي بكر بن بنج، السابئ بضاعة الخِزي بعدهم، ثبتاً بأمره بتغريقهم مُنْصَرَفَه عن مَليله. فأُخرجوا ليلاً من جوف السفينة من بين أمهاتهم الثكالى بعد أن جلَّلَتهم الذلّة ومَسَّهم الضُّر وعاث في شعورهم الحيوان لطول مقامهم في البحر شهوراً عدة فأغرقوا: يركب الصبيُّ منهم زَبْنيَّ من تلك الزبانية ليخرجَه إلى البر، فإذا خاض به الغَمر وقارب الضحضاح قلبه، وأمسك أصحابُه بيديه ورجليه وغمسوا رأسه في الماء حتى تفيضَ نفسُه، إلى أن كمل منهم تسعة عشر بدور مُلكٍ وشُموس إمارة غُذُوا بالنعيم ومُهدت لهم الأرائك، لم تعلق بهم شُبهَةٌ توجب إباحة قطرة من دمائهم. حدثني مُتولي هذا المكروه بهم بِهَوْل مصرعهم فقال: لقد عَلَتْ منهم ليلتئذٍ الجثث حتى صارت هضبة، وحُفر لهم أخدودٌ هيل عليهم ترابه، كتب الله شهادَتَهم وجعل أصاغرهم فَرَطاً لآبائهم، وعنده جزاء الظالمين وهو أسرعُ الحاسبين سبحانَه. ونَفَذَ بعد ذلك أمره عند الوجهة إلى تلمسان بالإجهاز على طائفة من الأغفال بين مَشْيَخَةٍ وسواهم مُنْتَسِبين إلى يعقوب بن عبد الحق، نسبة دَلَّت عليهم الرَّدى وقادت إلى غَلاصِمِهم المُدى أُبيدوا ذبحاً ثم أُلحِقَ بالجملة بعد مُدَّةٍ ابن أخته الغالبة على أمرِه من أحد أبناء عمه، فنجي عليه ما أوجب أن أَثكلها به. ورأى أن قد خلا له الجو، إلاَّ أن همَّه بمن تحصَّل بالأندلس من بني عمه وبني أخوته نَغَّصَه المِنْحَة، وكدَّر الشرب. وفتل إلى المتغلب على الأندلس في الغارب والذروة، واستفزَّه عنهم بكل جهد وحيلة فلم يجد فيه من مَغْمز ولا عليه من مُعَوَّل، وسَتَر الله عنه أخاه المبايع له من بعده. وألقى بأزمة دولته لأول أمره إلى خطيبه وخطيب أبيه لوسيلة قديمة. ثم لِمَا أبلاهُ في جلب الملك إليه فلطفت المنزلة، وعظمت الألفة، وتمحضت الثقة، فخلطه بنفسه ولم يستأثر عنه ببثه، ولا انفرد عنه بما سوى أهله بحيث لا يقطع في شيء إلا عن رأيه، ولا يمحو ولا يُثبت إلا واقفاً عند حده، فغشيت بابه الوفود، وصُرفت إليه الوجوه، ووقفت عليه الآمال، وخَدَمته الأشراف وجُلبت إلى سُدته بضائع العقول والأموال، وهادته الملوك فلا تَحْدو الحُداة إلا إليه، ولا تُحَطُّ الرحال إلا لديه، إن حضر أجرى الرسم وأنفذ الأمر والنهي، لحظاً أو سراراً أو مكاتبة، وإن غاب ترددت الرقاع واختلفت الرسل. ثم انفرد أخيراً ببيت الخلوة ومنتبذ المناجاة، من دونه مصطفّ الوزراء وغايات الحجَّاب، فإذا انصرف تبعته الدنيا وسارت بين يديه الوزراء، ووقفت حِفَافَيْ بابه الأمراء وقد وسع الكلَّ لحظُه، وشملهم بحسب الرتب والأحوال رعيُه، وانسحب عليهم وعقدت ببنان عليتهم بنانه، لكنّ رضى الناس غاية لا تدرك والحسد بين بني آدم قديم، وقبيل الملك مباين لمثله بكل اعتبار، فطويت الجوانح منه على سِل، وحنيت الضلوع على بث، وبحسب ما بث الله جل جلاله من أَسْر نيات الخلق إليه، وتعطشهم إلى لقائه، ورغبتهم في إنهاضه إلى ملك أبيه، كان انقلابهم إلى ضد هذه الحال شَرَقاً بأيامه، وإحصاء لقطاته، وولوعاً باغتيابه، وتربصاً للمكروه به إذ خابت فيه آمال الآملين، وحبطت أعمال العاملين، فكان من آزره على أمره، وصَحِبَهُ في التماس ملكه أو رَفَعَهُ على كاهله، أو اقتحم الخطر من أجله هو الغُفْل من سِيما حُظوته أو المخصوص بهجرانه وَمَقْلِيَتِهِ أو المطرود عن سُدَّته. وكل ما أصدر من أمر أثناء طريقه أو أقطع من بر أو أجري من نعمة كر عليها المَحْو، وتعقبها النسخ، والقبائل التي أخذت عفو طاعته وخفت إلى بيعته لم يقسم الله لها حظاً من رفقه، ولا هضماً من غُرمه ولا مزية من ملكه. والرعايا استولت عليها المغارم ونزفها الحلْب حتى عجزت عن الفَلْح وضعفت عن الإثارة والبذر