ودَاخَل زعيم المشركين من الروم صبياً من عنصر أهل قطلونية، شامخ الأنف، شديد البأو، طافحاً من خمر الاغترار، راقصاً على إيقاع جُنُون الشبيبة. قاسمه الجرأة شق الأُبْلمة، وأعطاه صفقته، وقد أَسَفَّتْه الدولة بقِضاضه. فلما كمل ما أبرماه استركبا قومهما واستخرجا الطبول والأعلام، وفَضَّ ختام صُرر المال، وقيد للسلطان جواد من مراكب الوزير خالص الحلية، وقصد إلى محل ثقافة وقد تجافت به عن المحن، لاشتهاره باللوثة وعدم الصُّلُوح للولاية. زعموا أنه تستَّر بذلك دَهْياً، فتخطته المتالف لأجله، وسلم من مغرَّة إخوته مجراه. فبايعه بالولاية وأركب للناس، وَوَجه عن الشيخ عيسَى بن الزَّرقا المستنام إليه بالأمانة على الأيام، الراجع لنظره أمر الرماة ومقاعد الحرس، السّارح في ظل البيت وخَلْف الشهرة، المنطوي على جم الانطباع والتلون والمَذَق، حالباً بذلك ضَرع السعادة في عمره حتى اضْطَبَن المال الدَّثْر المحوط بسد يأجوج من الضنانة، فجيء به من سريره إليه، فحمله على البيعة في ظل الحسام الصلت. ورتب ليلتئذٍ الأمور وأحكم التعبئة، إلا أن النار لكثرة المشاعل واقتحام الخزائن عَدَتْ على هذه المدينة فاصْطَلَمت القصر المعروف بأبي قير مطرح الأموال المجموعة وسَمَرِ الركاب المجنوبة، ومُخْرس الألسنة الناطقة، ومرجع العيون الطامحة، المشتملة دُوره وزواياه على الكثير من عُدد المُلك وآلات الحركات وأجرام المنشآت وثمين السلع من الَّلك والنَّيلج والعاج والأبنوس والصندل وَشِبْهه. ثم تعدّت إلى دار الصنعة وبه مالا يأخذه الوصف من السُّروج والمهندات والسلاح ونقر الذَّهب والفضة، إلى المواعين والموازين وآلات الخيل، ثم اتصلت بدار الديباج فالتهمت من الحرير والأثواب وآلات النَّسج وضخام المناول وألواح الرسوم وجبال التَّمْويح وعقار الصبغ وغَزْل الذهب ما لا يأخذه الوصف. وتلاحقت ألسنة النار بأعناق السماء وفضحت أستار الظلماء، وكان اصطلام هذه الدُّور مما نغَّص المسرة وحظَّ التدبير وإلمام المنْحَسَة، وأَحْرِ بما جمعه اللَّهْفُ والقَسْر وأُغمِضَ فيه الدِّين أن تسوء عُقباه وتكون النار مأواه. ولما وضح الصباح قُرعت الطبول والناس في بُلَنْهِيةٍ، ونُشرت الأعلام، ووقع النداء بأمر السلطان الذي نقلت إليه البيعة فانكشف الخبء، واشتهر الأمر، واستركب السلطان فبرز في مركبٍ أخْشَن قد حفّه وزيراه مسعود ابن رَحُّو، وسليمان بن داود المستقدم من جبل الفتح، وخطيبه أبو عبد الله بن مرزوق، وخالصته سُليمن ن وَنْزَار، والجمُّ الغفير من الأشراف وأرباب المشورة وأشياخ القبيل، وطاف بالبلد فرأى سُخْنَةَ عينه، وشجا صدره ومَثَار حسرته. ووقع الرأي منهم على التخييم بظاهره، ونقْل الأسواق إليه، واضطراب المحلات عليه. فاستُدعيت المضارب وقد تناصف اليوم، وبدا في المصاف الاختلال وكثر إلى محل الثورة النُّزوع وبه اللحاق، والسلطان رحمه الله قد اختبل جزعاً واسْتُطيرَ فَرَقاً، وقعد بمضرب هجير نُصِب له يُقلب كَفَّيه ويلاحظ الموت صَلْتاً من خلفه وبين يديه، ويستدعي الماء لتبريد جوانحه فيُؤتَى به في أواني تَعَافُها البُهْم من مبتذلات آلات الضُّعفاء، عنواناً على الخمول ودليلاً على الإدبار. ولم يكن إلا أن انهزم النهار فانهزم عنه جمعه من غير قتال ولا مدافعة شأن مَنْ قبله، وتُرك أوحش من وتد في قاع، وولَّى العنان يخبِطُ عشواء في طائفته الخاصة به وكلهم ينجدُه ويقوي بصيرتَه ويعده بالدفاع عنه الوعد المكذوب، ويقسم له على الوفاء له القَسَم الحانث، ولم يتم ذلك، ونزل الليل إلا وقد أفردوه وخلَّفوه وحيداً مطرحاً مكفور الصنيعة مضاع الحق، ورجعوا أدراجهم فاستأمنوا لأنفسهم من الغد. ثم بدا في أمرهم فأكبلوا وضموا إلى الثقاف. وأُخرجَ للبحث عن السلطان شعيب بن ميمون ابن وادَرار، مخلفه كان على مدينة الجزائر وكان قد أوقع به سُخطة اعتيم لأجلها فعثر عليه من الغد في بيوت بعض البادية على أميال من المدينة قد استبدل ثياب الملك أسمالاً فأركبه على الظهر، واستاقه إلى قريب من البلد وطيَّر مستأذناً في أمره فاستعجل في قتله وجلب رأسه، فصدر ذلك على يد علج أو أعلاج من قاذورات المشركين، طرحوه عن ظهر الدابة التي سيق عليها وقتلوه ذبحاً عن جَزَعٍ شديد واستلطافٍ وممانعةٍ باليد عن حُلْقُومه، ثم حزُّوا