مَنْ لَمْ يُفِدْكَ بنفعه أو جاهه ... فلأيما اصْتَصْنَعْتَه مَخْدُوما
فَلْتَخْدِمِ الله الذي من أمَّهُ ... بضمير صدق يلْفَ منه رحيما
ومن نثر قوله: وأما الكتابة فلفظ نِحْلَةٍ حُذفت تاؤه، ومعقل خُذْلَةٍ شرع من غير مَحلِّه إيتاؤه، وهي خطة استغنى الناس بذَيَّانها عن سَحْبَانها وعن مُلاك أزمَّة آدابها بجهلة طُلاَّبها، فمن رأسَها معهم من ذوي المروءات والهمم من سائر الأمم، فقد ارتكب الصعاب وَثوى مقعداً من المذلة والهُون أنَّى شاء من سائر الأبواب فهو ينشد سائليه عن حاله بلسان عذر كليل، وقلب عليل، معتذراً في الضرائر بما قد قيل:
ألا قاتل الله الضرار فإنها ... تُعَلِّمُ خير الناس شرَّ الطبائع
وتَحْمِل ذا الطبع الشريف تكرُّماً ... على ذِلَّةٍ في عيشه وتصانع
وكان السفر من مراكش يوم الأحد الثالث والعشرين من جمادى الآخرة وقصدنا باب الرَّخا من أبوابها غَلَساً لنصايح تربة الشيخ، قصد التزود ببركتها، فتعذر فتح الباب وطال به الوقوف وأعْييَ علاجه، فانصرفنا عنه وفي أنفس بعض المشيغين حزازة من ذلك، فأنشدت منهم الشيخ القاضي أبا محمد الزقندري بديهة:
يا محلاًّ لخُلَّتي وانتحائي ... لم يُبِحْ لي الخروجَ بابُ الرخاءِ
دلَّ أن الرخاء مغتبطٌ بي ... فبحقٍ تَبَجُّحي وانتخاءِ
فحُفِظ واستُطْرف، وتحول المحزون إلى ضده والله الموفق للأقوال والأعمال بفضله.
وحثثنا السير على تَفِيَّةِ ارتحال الجيش وتوقع الفساد في السُّبُل، صحبة لِمَّةٍ من أشياخ وراء سكان الصقع، واستقبلنا حي بني الحارث من عرب العمود، جَذْوَة شَرار الشِرار أولى الحِرابة والخرابة. فنزلنا بمحلة من حِلَل رِعاء البَهْم وقد أوقع في طريقنا يومئذ بمحروبين حار أحدهما ونجا ثانيه برأَس طِمِرَّة ولجام.
ورحلنا من الغد في قفر تَنْدر ببعض مَهامَه به أبيات نابية للمُسَمَّيْن، وبتنا بحِلَّةٍ من حلل بني جابر أولي إبل وشاء. ورحلنا من الغد فتجاوزنا غَوْلاَ، وتخطينا مَظَنَّة اعتراض، ومَسْبَعَةَ فُسَّاق في حَدِّ بين بلاد بني الحارث، وبني وراء، يُولي كلٌّ منهم خٌطّة المَلام جاره عند إعداء الرُّفُق المصابة، وإصراخ السلطان لندائهم.
ودخلنا بلاد بني ماقِر، فكان المبيت بسورها تحت خصبٍ وأمَنَه، ومنها صرفنا مَن صَحَب من أشياخ تلك الأرض عن شكر وإطراء، وإن كنا في مَظنَّة الروْع، نرى منهم اخزرارَ عيون ومخايلَ فتنة.
ومن الغد سلكنا وطن بني ماقر وهو كثير العمران، متعدد الديار والأشجار سَقْيُه من نطاف عذبة تَخْتزنُ بها بركات الأمطار فيقع بها أمْنُهم والاجتزاء إلى زمن المطر. وبها كثير من الصالحين وأولي الخير وأرباب التلاوة، وربما ألفِيَ بها ضدُّهم، ولله درُّ القائل:
الناس كالأرض ومنها هُمُ ... من خشن فيها ومن لَيِّن
مَرْوٌ تَشَكَّى الرِّجْلُ منه الأذى ... وإِثْمِدُ يُجْعَل في الأعين
ووردْنَا مدينة آسفي وقد تمكن النهار، فلقينا موكب أرباب الخُطط باين مُعدين. ولما شارفنا، ركبنا إليها صردوكها أحمد بن يوسف حفيد الوليّ أبي محمد صالح، القائم في ظل صيته، وأثير الناس من أجله، رجل أدَمُ اللون، قد تَعَجَّل الوَخْطُ منه، ذقن كث ذو تيقور، جالس السلطان، وقاد ركب الحجاز، وجرَّ ببلده دنيا عريضة واقتعد غارب غنيّ جمّ، يفد على باب السلطان في سبيل دالَّةٍ بقديمه، ويقفل إلى وطنه مجدد الصكوك مستجاد الخِلعة. خاطبته بين يدي قدومي بقولي:
يا حفيد الوليِّ يا وارثَ الفخ ... ر الذي نال في مقام وحالِ
لك يا أحمد بن يوسف جُبنا ... كل قفر يُعْيِي أكُفَّ الرِّحال