للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الوجه الخامس: بقاء حرمة العهد.]

أن هؤلاء القاطنين في بلاد الإسلام من المعاهدين كبقايا اليهود، والنصارى، وكذا المستأمنين من السيَّاح، والأطباء العاملين في المستشفيات، أو الجامعات، والمهندسين، والخبراء في الشركات، والعاملين في الهيئات والمؤسسات المختلفة، وأعضاء السفارات ... الخ، هؤلاء في الغالب لم يأتوا بناقض لعهدهم، أو أمانهم، بخلاف كعب بن الأشرف الذي نقض العهد، وحرض على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - وآذاه، وهجاه، وسبَّه، ومن أتى منهم بناقض ثابت فمرده إلى القضاء الشرعي، وإلى الأجهزة المختصة في الدولة، وما نراه من ضعف في بلاد الإسلام من تحقيق ذلك استثناء، والأصل ما ذكرناه، وأقل ما يمكن أن يقال في شأن من ذكرناهم أن لهم أمانا أو شبهة أمان؛ وذلك كافٍ لعصمة دمائهم.

وقد ذهب ابن تيمية إلى أنَّ ما تكلّم به محمد بن مسلمة مع كعب بن الأشرف من تورية، جعل ذلك أمانا فقد قال في الصارم المسلول: " وقد زعم الخطّابي أنهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان، ونقض العهد قبل هذا .. لكن يقال، هذا الكلام الذي كلّموه به صار مستأمنا، وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان، ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر، فإن الأمان يعصم دم الحربي، ويصير مستأمنا بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه، وإنما قتلوه لأجل هجائه، وأذاه لله ورسوله، ومن حلّ قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمان، ولا عهد .. ". (١)

ولمالك كلام بديع في الأمان، فقد جعل مجرّد الإشارة أمانا. قال ابن عبد البر: " وسئل مالك عن الإشارة بالأمان: أهي بمنزلة الكلام؟ قال: نعم، وإنَّي أرى أن يتقدم إلى الجيوش:

ثم قال ابن عبد البر معلقا على كلام مالك: " إذا كان دم الحربي الكافر يحرم بالأمان، فما ظنُّك بالمؤمن الذي يصبح ويمسي في ذمة الله! كيف ترى في الغدر به، والقتل.

وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " الإيمان قيَّد الفتك، لا يفتك مؤمن ". (٢)

وقد ذكر ابن عبد البر آثارا عدَّة في الاستذكار عن الأمان، لم أذكرها خشية الإطالة تدل على عظمة هذا الدّين، وسماحته، وحفظه للعهود والمواثيق، ومراعاته لأقل العبارات في أمان المسلم للكافر.


(١) الصارم المسلول: ابن تيمية، ج ٣، ص ٨٧.
(٢) المرجع نفسه.

<<  <   >  >>