للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فصل: قوله تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " أي في أحسن تعديل لقامته وصورته وحسن شارته منتصباً يتناول مأكوله بيده مزيناً بالعقل لا كالبهائم وعلى هذا حكاية الرشيد لما خلا بزوجته في ليلة مقمرة فقال لها: إن لم تكوني أحسم من هذا القمر فأنت طالق فأفتى علماء زمانه بالحنث إلا يحيى بن أكثم فإنه قال: لا يقع عليه الطلاق فقيل له: خالفت شيوخك فقال الفتوى بالعلم ولقد أفتى به من هو أعلم منا وهو الله سبحانه وتعالى حيث قال: " لقد خلقت الإنسان في أحسن تقويم ".

وجاء تفسير قوله تعالى يزيد في الخلق ما يشاء أنه الصوت الحسن والوجه الحسن ولهذا قال أبو فراس:

قد فاق بدر السماء حسناً ... والناس في حبه سواء

فزاده ربه عذاراً ... تم به الحسن والبهاء

لا تعجبوا ربنا قدير ... يزيد في الخلق ما يشاء

وحكي عن بعض النساء أنها كانت تكثر صلاة الليل فقيل لها في ذلك فقالت أنها تحسن الوجه وأنا أحب أن يحسن ٣ وجهي.

وحكي أن المأمون استعرض جيشاً فمر رجل قبيح فاستنطقه فرآه ألكن فأمر بإسقاطه. وقال: إن الروح إذا وقع أثرها في الظاهر كانت صباحة وإذا وقع أثرها في الباطن كانت فصاحة وهذا الرجل لا ظاهر له ولا باطن ولكن شخص له حكمان: أحدهما من جهة جسمه وهو منظره والآخر من جهة نفسه وهو مخبره وكثيراً ما يتلازمان ولذلك فرغ أصحابه الفراسة من معرفة أحوال النفس الهيئة البدنية حتى قال بعض الحكماء قلما توجد صورة حسنة تدبرها نفس رديئة وقد قال عليه الصلاة والسلام اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه فهذا كله يدل على أن الحسن وكمال الجسم من الفضائل ويدل عليه قوله تعالى: " وزاده بسطة في العلم والجسم " والحسن أول سعادة الإنسان لأن الله تعالى بلطف حكمته لم يخلق الصورة مختارة الصفات سليمة من الآفات إلا وأضاف إليها ما يناسبها من العقل والصفات وقلما تجد الخلق إلا تبعاً للخلقة تناسباً مطرداً وأصلاً لا ينعكس وإجماعاً لا ينفرد وما خلق الله نبياً قط إلا وقد بهر أهل زمانه بحسنه وإحسانه فإذا نظرته أول مرة رأيته أحسنهم صورة وأتقنهم بنية فهو أولاهم مرتبة وأعلاهم منقبة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا يعذب الله حسان الوجوه سود الحدق ". قال الإمام فخر الدين الرازي في أسرار التنزيل ما ملخصه حسن الصورة وإن كان أمراً مرغوباً فيه فإن حسن السيرة من مطالب الحكمة ولا شك أن الحكمة أفضل من الشهوة فكان حسن السيرة أفضل من حسن الصورة لا محالة، ومنها أن يوسف عليه الصلاة والسلام اجتمع له حسن الصورة وحسن السيرة ثم أنه بسبب حسن الصورة وقع في أنواع من البلايا منها أن أباه كان يحبه أزيد من أخوته بدليل قوله تعالى " إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا " فهذا قصدوا قتله بدليل حكايته عنهم " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم " ومنها أنه وقع بسب الحسن في أسر الرق ومراودة امرأة العزيز وإدخاله السجن بسبب ذلك فلما علم الملك بعد ذلك حسن سيرته اصطفاه لنفسه وقال له إنك اليوم لدينا مكين أمين ولم يقل صبيح مليح فدل ذلك على أن حسن السيرة أفضل من حسن الصورة ومعلوم أن حسن الصورة لا يبقى إلا أياماً قلائل وأما حسن السيرة فإنه لا يزول أثره ولا تبطل نتيجته قلت وممن حصل له الأذى بسبب حسن صورته نصر بن حجاج وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر ليلاً فسمع امرأة تقول:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج

فدعا نصر بن حجاج وهو من بني سليم فرآه أحسن الناس وجهاً وله شعر حسن فحلق شعره فكان أحسن منه بشعر فقال: لا تساكني في بلد فتشفع نصر إليه أن لا يخرجه من المدينة فلم يقبل عمر رضي الله عنه فلما ودعه نصر قال له يا أمير المؤمنين لقد سمتني قتل نفسي فقال عمر كيف ذلك فقال قال الله تعالى: " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم " فقرن هذا بهذا. فقال عمر: ما أبعدت لكن أقول ما قال شعيب عليه السلام: إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ولقد أضعفت لك يا نصر عطاءك ليكون ذلك عوضاً لك أقول ذكرت بحلقة شعره فكان أحسن منه بشعر قول بعضهم في ذلك:

حلقوا رأسه ليزداد قبحاً ... غيرة منهم عليه وشحا

<<  <   >  >>