وكان هذا النصراني موسوماً بالجمال خماراً فعلقة عبد الوهاب المذكور واشتهر به وأقام يبايته في الحانة ثلاث سنين ويدخل معه الكنيسة في الأعياد والحدود طول هذه المدة حتى حفظ كثيراً من الإنجيل وشرائع أهله وهجره مرة فلم يجد سبيلاً إليه وزعم أن عليه قسماً شديداً أن لا يكلمه إلى مدة شهر فلما يئس دعا بالقاصد فاقتصد في إحدى يديه ودعا قاصداً آخر فاقتصد في اليد الأخرى ودخل داره وأغلق باب بيته وفجر الفصادين فما شعر أهله إلا والدم يدفع من سدة باب المحل الذي هو فيه فأدركوه وقد أشرف على الموت فصالحه محبوبه النصراني خوفاً على نفسه.
ومن شعره فيه:
أنظر إلى الشامة في خد من ... ألحاظه باللحظ جراحه
كأنها من حسنها أذبدت ... حبة مسك فوق تفاحة
[ومنهم شهيد]
قال يا قوت في تاريخه كان مدرك ابن علي الشيباني شاعراً أديباً فاضلاً وكان كثيراً ما يلم بدير الروم ببغداد ويعاشر نصاراه وكان بدير الروم غلام من أولاد النصارى يقال له عمرو بن يحيى وكان من أحسن الناس صوره وأكملهم خلقاً وكان مدرك بن علي يهواه وكان لمدرك مجلس تجتمع فيه الأحداث لا غير فإن حضر شيخ أو صاحب لحية قال له مدرك قبيح بك أن تختلط بالاحداث والصبيان فقم في حفظ الله فيقوم وكان عمرو يحضر مجلسه فعشقه مدرك وهام به فجاء عمرو يوماً إلى المجلس فكتب مدرك رقعة وطرحها في حجرة فقرأها فإذا فيها:
بمجالس العلم التي ... بك تم حسن جموعها
ألارثيت لمقلة ... غرقت بفيض دموعها
بيني وبينك حرمة ... الله في تضييعها
قال فقرأ الأبيات ووقف عليها من كان في المجلس وقرؤها فاستحيا عمرو وانقطع عن الحضور وغلب الأمر على مدرك فترك مجلسه ولزم دار الروم وجعل يتبع عمراً حيث شاء وقال فيه شعراً كثيراً قال الحريري وقد رأيت عمرا أبيض الرأس واللحية ومن شعر مدرك فيه هذه القصيدة المزدوجة الغريبة العجيبة المشهورة وهي:
من عاشق ناء هواه داني ... ناطق دمع صامت اللسان
معذب بالصد والهجران ... موثق قلب مطلق الجثماني
من غير ذنب كسبت يداه ... يشكو هوى نمت به عيناه
شوقاً إلى رؤية من أشقاه ... كأنما عافاه من أضناه
يا ويحه من عاشق ما يلقى ... من أدمع منهلة ما ترقا
ناطقة وما أجادت نطقا ... تخبر عن حب له استرقا
لم يبق منه غير طرف يبكي ... بأدمع مثل نظام السلك
تطفئها نار الهوى وتذكى ... كأنها قطر السماء تحكي
إلى غزال من بني النصارى ... عذار خديه سبي العذارى
وغادر الأسد به حياري ... في ربقة الحب له أسارى
ريم بدار الروم رام قتلي ... بمقلة كحلاء لا من كحل
وطرة بها استطار عقلي ... وحسن وجه وقبيح فعل
ريم به أي هز بر لم يصد ... يقتل باللحظ ولا يخشى القود
متى يقل ها قالت الألحاظ قد ... كأنها ناسوته حين اتحد
ما أبصر الناس جميعاً بدرا ... ولا رأوا شمساً وغصناً نضرا
أحسن من عمر وفديت عمرا ... ظبي بعينيه سقاني خمرا
ها أنا ذا بقده مقدود ... والدمع في خدي له أخدود
ما ضر من فقدي به موجود ... لو لم يقبح فعله الصدود
إن كان ذنبي عنده ألا سلام ... فقد سعت في نقضه الأيام
واختلت للصلاة والصيام ... وجاز في الدين له الحرام
يا ليتني كنت له صليباً ... أكون منه أبداً قريبا
أبصر حسناً وأشم طيباً ... لا واشياً أخشى ولا رقيبا
يا ليتني كنت له قربانا ... ألثم منه الثغر والبنانا
أو جائليقاً كنت أو مطرانا ... كيما يرى الطاعة لي ايمانا
يا ليتني كنت لعمرو مصحفاً ... يقرأ مني كل يوم أحرفا