للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بحق رأسك دعني ... حتى أقبل نعلك

[ومنهم قتيل]

وهو مما رأته عيناي وسمعته أذناي ووعاه قلبي وذلك أني لما كنت في دمشق سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة اتفق أن شاباً من أبناء دمشق جميل الصورة عدا على إنسان كان يحبه فقتله فحمل إلى الوالي فلما سأله أنكر فعراه ليضربه بالسياط فتقدم إنسان كان يعشق ذلك الشاب وقال للوالي لا تضربه فإنه ما قتله وإنما قتلته أنا فأحضر الوالي الشهود وكتب عليه محضراً بإقراره بالقتل وأطلق الشاب وكان يتمشى نائب دمشق يومئذ فلما حكيت له هذه القصة واطلع على باطنها توقف في قتله وأمر بحبسه فلم تمض إلا أيام قلائل حتى حضر أرعون الكاملي من حلب عوضاً عن أيتمش في نيابته بدمشق فكان أول شيء حكم فيه من الدماء شنق ذلك العاشق المسكين بمقتضى المحضر المكتتب عليه ولقد رأيته تحت القلعة وهو مشنوق والناس حوله يتأسفون عليه ويذكرون حكايته ويتعجبون منها وحكيت هذه الحكاية للقاضي كمال الدين بن النحاس فتعجب منها وأخبرني عن القاضي زين الدين بن السفاح وأخيه القاضي شمس وجماعة من أهل حلب الموجودين الآن أنهم أخبروه أن ناصر الدين محمد بن يكتوب أحد كتاب المنسوب المعروف بالقلندري أنه كان يهوى مغنية لا تزال زرموزتها معه في كيس حرير أطلس معلق في رقبته تحت ثيابه فإذا حضر في مجلس ولم يتفق حضورها فيه أخرج الزرموزة من الكيس ووضعها قدامه وجعل يبكي فإن لم يتفق له بكاء شديد أنشد:

لأمتعت عيني محب بما ... يسرها إن هي لم تسجم

على حبيب تلفت نفسه ... من التباريح ولم يضرم

فلما قرأها لم يملك نفسه خوفاً وجزعاً فأسعدته عينه اليسرى ولم تسعده اليمنى فأقسم أن لا ينظر بها ما عاش في الدنيا إن لم تسعده بالبكا على حبيبه وهي أقوى حساسة من اليسرى فكان يسمى الصابر قلت ومن غريب ما يحكى أن ناصر الدين القلندري المتقدم ذكره كان يضع المحبرة في يده الشمال والمجلد من الكتاب على زنده ويكتب منه وهو يغني ويضرب برجله الأرض ويكتب في هذه الحالة ما شاء ولا يغلط ولا يلحن وأخبرني بعض من كتب عليه أن من غريب ما شاهد من حاله أنه كان يهوى شاباً من أولاد الجند من أولاد الجند بطرابلس كان يكتب عليه وكان آخر ما تمثل به ومات عقبه سنة خمس وثلاثين وسبعمائة قول الصاحب بن عباد:

يا من وهبت له نفسي فعذبها ... ورمت تخليصها منه فلم أطق

أدرك بقية نفس فيك قد تلفت ... قبل الممات فهذا آخر الرمق

قلت وليكن هذا ما وقع عليه الاختيار وطابت به لابن أبي حجلة حين سقط بمصر أوطار وكيف لا وقد سقطت منه على الخبير وأتيت من أخبار من غفر الله لنا ولهم بالجم الغفير فشهداؤه من أعيان المشاهد وقتلاؤه وإن اختلفت أسباب موتهم فداؤهم واحد ففي ذلك والحمد لله كفاية وإن كان التفسير قصراً غير مقصود عن الغاية على أن في رحلتي نشر العلمين في زيارة الحرمين ما هو كفص الخاتم لهذه الخاتمة والأمواج العظيمة لهذه الأبحر المتلاطمة لا جرم إني لم أذكر من اختبار أهل الحجاز إلا ما شار إليه هذا الكتاب ببنان بيانه وبدأ من ورقه وقلمه على صفحات وجهه وفلتات لسانه فكم في الرحلة المذكورة في ذكر من مات على هذه الصورة من أخبار متيم امتنع من هجوعه وأصبح غريقاً بسحاب دموعه.

لدى سمرات الحي برق يسامره ... يذكره بالثغر ما هو ذاكره

؟ بذكره عهد العذيب وما حوى على حاجر سالت عليه محاجره

إذا ما بدا البرق اليماني لعينه

سقى السفح من ذيل المقطم عارض

فكم فيه من صب وغرامه

تطاول ليلي في هواه ولو يشا

فيا للهوى العذري ما العذر عندما

صحا وما صحا من زال في الحب عقله

أيبرد ما ألقاه يا جارتي وقد

أحاول منه وصله كل ساعة

ولو لم يكن سلطان حسن لما سرى

يجود عليهم حين يسري جواده

فلولاه ما أمضى أمير ذوي الهوى

ولولا سطا السلطان في مصر ما مشى

هو الناصر المنصور والعادل الذي

له في سبيل الله خير ذخيرة

ودرياقه في الثغر عقرب نبله

جزى الله عنه مصر ما هو أهله

جواد غدت نعماً معنا قريبة

فما عابه أن الجنود جنائب

له من بياض الصبح والليل أدهم

<<  <   >  >>