للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال الأصمعي كنت في بعض مياه العرب فسمعت الناس يقولون: قد جاءت فتحرك الناس فقمت معهم فإذا بجارية قد وردت الماء ما رأيت مثلها قط في حسن وجهها وتمام خلقتها فلما رأت كثرة تشوف الناس إليها أرسلت برقعها فكأنه غمامة غطت شمساً فقلت لم تمنعينا النظر إلى وجهك هذا الحسن فأنشأت تقول:

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولاعن بعضه أنت صابر

ثم نظر إليها أعرابي وقال أنا والله ممن قل صبره وأنشد:

أوحشية العينين أين لك الأهل ... أبالحزن حلوا أم محلهم السهل

وأية أرض أحرجتك فإنني ... أراك من الفردوس إن فتش الأصل

قفي خبرينا ما طعمت وما الذي ... شربت ومن أين استقل بك الرحل

لأن علامات الجنان مبينة عليك ... وإن الشكل يشبهه الشكل

أقول هذا والله هو السحر الحلال والعذب الزلال قد اشتمل على مذهب السحر الكلامي والبدر السامي فكأني بها وقد ذكرت له الأهل ووصفت من حيها وخدها الحزن والسهل هنالك يأتيها سعياً على الرأس لا سعياً على القدم وتكون وجناتها أحب إليه من حمر النعم وينشد:

أريني مكان البدر إن أفل البدر ... وقومي مقام الشمس إن بعد الفجر

ففيك من الشمس المنيرة ضوءها ... وليس لها منك التبسم والثغر

حكي أنه دخل أصبهان مغن كان يتغنى بهذين البيتين:

سماعاً يا عباد الله مني ... وكفوا عن ملاحظة الملاح

فإن الحب آخره المنايا ... وأوله شبيه بالمزاح

قلت وفي هذا دليل على أن العين هي التي تجلب الحين وإذا كان كذلك فلنذكر هنا مناظرة وقعت بين القلب والعين ولوم كل منهما صاحبه والحكم بينهما وهي لما كانت العين زائدة ومحبة القلب زائدة وهذه لها لذة النظر وهذا له لذة الظفر كانا في الهوى شريكي عنان وفرسي رهان فلما وقعا في السهاد والحرق وأضر بصاحبهما الأرق قال القلب، يقول الأرجاني لطرفه الجاني:

تمتعتا يا مقلتي بنظرة ... وأوردتما قلبي أشر الموارد

أعينيّ كفا عن فؤادي فإنه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد

وقال أبو الطيب المتنبي:

وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل

وقول الآخر:

عوقب قلبي وجنى ناظري ... وربما عوقب من لا جنى

وقول الآخر:

نظر العيون إلى العيون هو الذي ... جعل الهلاك إلى الفؤاد سبيلاً

ما زالت اللحظات تغزو قلبه ... حتى تشحط بينهن قتيلاً

وقول الآخر:

يا من يرى سقمي يزيد ... وعلتي أعيت طبيبي

لا تعجيز فهكذا ... تجني العيون على القلوب

وقال ابن مدرك:

جرحت بلحظي خدّ الحبيب ... فما طالب المقلة الفاعله

ولكنه اقتس من مهجتي ... كذاك الديات على العاقله

فلما سمعت العين إنشاده وفهمت مراده أشاوت إليه وأخذت في الإنكار عليه فقالت يا للعجب من ظالم يتظلم وأخرس يتكلم أليس من الخبر الذي شاع وذاع أنك أنت الملك ونحن الأتباع ترسلني فيما تريد كالبرق وتعقب ذلك بالتهديد أما سمعت قول أبي هريرة رضي الله عنه القلب ملك والأعضاء جنوده فإن طاب الملك طابت جنوده وإن خبث الملك خبثت جنوده.

وقال سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله فبين ذنبي وذنبك إذ ذاك كما بين عماي وعماك.

وقال علام الغيوب " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب " فلما سمعت النفس ما دار بينهما من الجدال قالت في الحال.

أنا ما بين عدوّين ... هما قلبي وطرفي

ينظر الطرف ويهوى ... القلب والمقصود حتفي

وقال آخر:

يقول قلبي لطرفي إذ بكى جزعاً ... تبكي وأنت الذي حملتني الوجعا

فقال طرفي له فيما يعاتبه.

بل أنت حملتني الأمال والطمعا ... حتى إذا ما خلا كل بصاحبه

كلاهما بطويل السقم قد قنعا ... نادتهما كبدي لا تعتبا فلقد

<<  <   >  >>