للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال آخر:

ولي سنة لا أدري ما سنة الكرى ... كأن جفوني مسمعي والكرى عذل

وقلت أنا:

مذ غبت عني شمس الدين ما اكتحلت ... عيني بغبر ذرور السهد والسهر

كم بت أرعى نجوم الليل من أرقي ... يا أشبه الناس من كل الناس بالقمر

وقال الشريشي فأما أكثر الشعراء فهم من الليل أفزع وإلى النهار أنزع لأن الليل أجمع لأشتهات الهموم والفكر وأجلب لشوارد الأحزان والذكر.

وقال امرؤ القيس:

وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي

وقال قيس بن ذريح:

أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع

نهاري نهار الناس حتى إذا بدى ... لي الليل هزتني إليك المضاجع

وقال ابن المعت:

لا تلق إلا بليل من تواصله ... فالشمس نمامة والليل قواد

كم عاشق وظلام الليل يستره ... لاقى الأحبة والواشون رقاد

وقال المتنبي:

كم زورة لك في الأعراب خافية ... أزهى وقد رقدوا من زورة الذيب

أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وانثنى وبياض الصبح يغري بي

هذا البيت أمير شعر المتنبي على كثرة الجيد فيه وفيه مقابلة خمسة بخمسة وقد أخذه بعضهم فقال:

أقلى النهار إذا أضاء صباحه ... وأظل أنتظر الظلام الدامسا

فالصبح يشمت بي فيقبل ضاحكا ... والليل يرثى لي فيدبر عابسا

وقد أحسن في أخذه فإن فيه أيضاً مقابلة خمسة بخمسة.

قال ابن يحيى في قول المتنبي المذكور أنه مأخوذ من قول ابن المعتز:

فالشمس نمامة والليل قواد

قال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس: قال لي شيخنا تقي الدين بن دقيق العيد: قل لهؤلاء علماء المعاني والبيان والبديع أتحسنون أن تقولوا مثل قول المتنبي: أزورهم وسواد الليل البيت فإذا قالوا لا قل فأي فائدة فيما تصنعونه.

يريد بذلك أن العمل غير العلم والمباشرة دون الوصف.

ومثل قوله هذا ما حكاه بعضهم عن بعض الوعاظ أنه كان على منبره يتكلم في المحبة وأمور العشق وأحواله ومديد أطناب الأطناب في ذلك فقام إليه بعض الجماعة فقال:

بعيشك هل ضممت إليك ليلى ... قبيل الصبح أو قبلت فاها

وهل زفت عليك فروع ليلى ... زفاف الأقحوانة في نداها

فقال الواعظ لا والله فقال له فابشر.

وقال المتنبي:

وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبران المانوية تكذب

وقاك ردى الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب

المانوية قوم يعتقدون أن الخير كله من النور والشر كله من الظلام فكذبهم بأنه وجد الخير في الظلام حيث ستره عن أعدائه ووقاه شرهم وكان عوناً له على زيارة من يحبه.

وقال ابن رشيق:

أيها الليل طر بغير جناح ... ليس في العين راحة في الصباح

كيف لا أبغض الصباح وفيه ... بان عني أولو الوجوه الصباح

حكى الأصمعي قال حضرت مجلس لارشيد وعنده مسلم بن الوليد إذ دخل أبو نواس فقال ما أحدثت بعدنا يا با نواس. فقال: يا أمير المؤمنين ولو في الخمر فقال: قاتلك الله ولو في الخمر فأنشده:

يا شقيق الروح من حكم ... نمت عن ليلى ولم أنم

الأبيات حتى أتى على آخرها فقال: أحسنت والله يا غلام أعطه عشرة آلاف درهم وعشر خلع فأخذها وخرج.

وحكى عن المطرز الشاعر أنه مر وفي رجليه نعل له بالية وهي تثير الغبار فرآه الشريف المرتضى فأمر بإحضاره وقال له: أنشدني أبياتك التي تقول فيها:

فإن لم تبلغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماء ولا رعت العشبا

فأنشده إيهاها فلما انتهى إلى هذا البيت أشار الشريف إلى نعله البالية وقال أهذه كانت من ركائبك فاطرق المطرز ساعة ثم قال لما عاد هبات سيدنا الشريف أيده الله تعالى إلى مثل قوله:

أيده الله تعالى إلى مثل قوله ... وخذ النوم من جفوني فأنى

<<  <   >  >>